كتبت في مقالي السابق عن اختلاف الآراء وما يُسبب من تمزّق العلاقات والشقاق بسبب التعصّب لها، والإصرار على فرضها على الآخرين، وعدم احترام وجهات النظر الأخرى. وأشرت إلى أن اختلاف العقول والآراء والأفكار مصدر عظيم من مصادر قوّة المجتمع إذا تم استغلاله للانطلاق نحو آفاق الإبداع، والاستفادة من تنوّع الفكر وزوايا رؤية الأمور بأبعاد مختلفة. فاختلاف الآراء يحقّق ازدهار الوجود، وقيام الحياة الذي لا يمكن أن يتحقّق لو أن الناس خلقوا سواسية أو متشابهين. وقد ذكر القرآن لنا قصصًا عن الاختلاف كما ذكرت لنا السنّة. فهناك قصة الاختلاف في التحكيم بين سيّدنا داوود عليه السلام، وسيّدنا سليمان عليه السلام. وهناك قصة خلاف سيّدنا موسى عليه السلام وسيدنا الخضر بسبب اختلافهما في وجهات النظر. كذلك اختلفت الملائكة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلّم عن القاتل الذي قتل مئة نفس. فاختلف عليه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، وعلى مصيره!! فالاختلاف لم يكن يومًا المشكلة، وإنما المشكلة تكمن فيما ينتج عنه. فالاختلاف الصحي منتج. يسمو ويرتفع بأصحابه، وينير الجوانب المظلمة. أمّا الاختلاف الذي يسيطر عليه التعصّب، وتسوده لغة الهجوم والتعدّي على الآخرين بتسفيه آرائهم ومحاربتهم، فهو اختلاف مذموم مهلك لا يؤدّي إلى خير، ولا ينتج خيرًا. وأسوأ ما في الاختلاف أن يتعصّب صاحب الرأي لرأيه الذي يوقن أنه الحق. فينتهي الأمر إلى بُغض الناس له، وبغضهم للحق الذي يقوله ويدافع عنه. وهذا ما يحدث -للأسف الشديد- مع كثيرين من أهل الحق، يخسرون كثيرًا حينما يتعصّبون. ولا يتقدّمون قيد أنملة، ويُفقدون الحق الذي يحملونه التأييد، ويحصدون صدود الناس عنهم وعن الحق. فكم صاحب فكرة صائبة، ورأي صواب، وحق، خسروا وجلبوا الخسارة لقضيتهم بسبب تعصّبهم لآرائهم. فينطبق عليهم المثل القائل: قضية رابحة ومحامٍ فاشل. إنّ احترام وجهة النظر الأخرى ضرورة. والبعد عن مزالق الفتن، وتأجج فساد العلاقات ضرورة أشدّ تأكيدًا. فقد حدث ذات يوم أن اختصم فريقان حول صلاة التراويح. فقال الفريق الأوّل: إن صلاة التراويح إحدى عشرة ركعة. بينما أصرّ الفريق الثاني على أنها ثلاثة وعشرون ركعة. واشتد الجدال وتعصّب كل فريق لرأيه، حتى كادت تشتعل بينهما خصومة، فقام حكيم بينهما وقال: أغلقوا المسجد!! إن صلاة التراويح سنة، واجتماع شملكم وتآلف قلوبكم فرض. ولا يجوز إقامة سنة على حساب فرض!! إن احترام وجهة النظر الأخرى فن راقٍ لا يتقنه إلاّ القلّة. ولا يعني احترامها التسليم بها. كما أن تخطئة «شخص ما» لا تعني أن الآخر أفضل منه. فحقيقة الفضل لا يعلمها إلاّ الله. وأسوأ أنواع الاختلاف ذلك الذي يدفع البعض إلى التربّص بأهل العلم أو الفقه لالتقاط عثرة أو الوقوع على زلة. فالجميع يصدر منه الخطأ، والأئمة أيضًا وقعت منهم هنّات، لكن ذلك لا يعني هدم حالهم من مكانة حصّلوها بالسهر والإخلاص والتفاني والدأب. وهذا فهم آخر لأدب الاختلاف يعجز الكثيرون عن فهمه وإدراكه. إن السيرة النبويّة وسيرة السلف الصالح مليئتان بالكثير من الآداب التي تعلّمنا كيف نختلف. لكنها تحتاج إلى عينين تستبصر فيها وإدراك واعٍ. alshaden@live.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (46) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain
مشاركة :