من الأخبار الأدبية التي تروى عن الشاعر القرشي عمر بن أبي ربيعة وهو من أبرز شعراء العصر الأموي (إذ تقارب منزلته جرير والفرزدق) بأنه كان عندما يقدم موسم الحج.. يعتمر ويلبس الحلل والوشي، ويشبب بالحاجات الفاتنات ويروى عنه أنه قال: ليت ذا الدهر كان حتماً علينا.. كل يومين حجة واعتمارا وأيضا مما يروى في هذا المجال ماينشده معاصره الشاعر العذري قيس بن الملوح مخاطباً ليلاه: ذكرتك والحجيج لهم ضجيج بمكة والقلوب لها وجيب فقلت ونحن في بلد حرام به لله أخلصت القلوب فأما من هوى ليلى وتركي زيارتها فإني لا أتوب ولم ينقل لنا التاريخ بالمقابل، أي إنكار أو فتوى تربصت بالشاعرين، أو كفرتهما أو زندقتهما، أو جيشت الناس ضدهما، وتم تناول الأبيات والقصائد كنوع من الانكسار والضعف البشري في المشعر الحرام وأن الله غفور رحيم يغفر اللمم. ولعلهم في ذلك العهد حديثي عهد بالعقيدة النقية الصافية لم تخالطها مذاهب أو تجاذبات السلطة السياسية أو الأهواء، أي لم تتحول إلى أيدلوجيا فقهية باترة تتربص بالنص الأدبي وتعتقله داخل أطرها وتخضعه لمقاييسها. بل إن نقاد الشعر والأدب في ذلك الوقت كان يمتلكون الوعي والعمق الفكري بالشكل الذي يجعلهم يمايزون ويفصلون بين الفعل الديني بنقائه وشفافيته، والنص الأدبي الذي هو انعكاس لتجربة إنسانية تحمل أهواءها وشهواتها وقصورها، فتم الفصل بين الممارسة الدينية والطقس الأدبي تماماً فالناقد الأصمعي أبرز نقاد ذلك العصر يقول: (الشعر نكد لا يقوى إلا في الشر ويسهل فإذا دخل في الخير ضعف ولان). ويؤكد على هذا بقوله: (هذا حسان فحل من فحول الشعراء، في الجاهلية فلما جاء الإسلام سقط شعره). ومن هنا أدرجت قصائد الفقهاء بالشعر التعليمي الوعظي، ولم تبلغ وترتق منزلة الفحولة الأدبية كما في عيون الشعر العربي. فهنا حتى على المستوى النقدي كان هناك فصل واضح وقطعي بين الدين كممارسة روحية جليلة وبعيدة عن أرض الأدب، وقد وعى قدماء النقاد العرب أن للشعر ميزاناً مختلفاً تماماً عن ميزان الآداب، وأن من يحاول أن يدمجهما، إنما هو سطحي ساذج، كأنما يحاول أن يقيس (ملوحة الماء بميزان الفواكه)، فلكل منهما نطاقه وسياقه، وأدوات القياس الخاصة به. كان الإمام الشافعي، أحد الأئمة الأربعة الكبار للإسلام، معجباً بكتابات أبي النواس بكل خمرياته وزندقته، كان يرى فيه معلِّم اللغة بلا منازع، ويودّ الإحالة إليه باستمرار لو لم يكن يعالج في شعره وكتاباته مواضيع تُعتبر من الممنوعات، فأحد الأئمة الأربعة كان معجباً بشعر أبي نواس، لكنه كان يمتلك من الوعي والذكاء أن لايقوم بخلط العقدي مع الأدبي، بشكل ساذج استعراضي وبالشكل الذي رأيناه في أحد المقاطع المتداولة حول غزوة أحدهم لمعرض الكتاب. ويبدو واضحاً من المقطع أن صاحبه يهدف إلى تأليب الرأي العام ضد معرض الكتاب ككل وليست أسطر من قصيدة، فهو يروم إجهاض المشروع بكامله، حيث يقتطع نصاً للشاعر (محمود درويش) من سياقه، يعرض به، ويكفر صاحبه، وينصب محكمة تفتيش بدائية في الموقع لاستقطاب الغوغاء والعامة، وخلق حالة هياج جمعي من الممكن أن تحسب ضد معرض الكتاب. وإلا لو كان هو محتسب حقيقي بأهداف نبيلة فله عدة أساليب منها:- أن يستل الكتاب بهدوء ويأخذه إلى المسؤولين عن المعرض ليحسموا الأمر، أو على الأقل يشرحوا له معاني الأبيات التي يكون وعيه قد قصر عنها. أويطبق اقتراحاً بديلاً (اقترحته صديقة لي) وأعتقد أنه فكرة مذهلة.. عندما قالت: كل من يعترض على كتاب في المعرض من المفترض أن يكون بلغ من الوعي النقدي والتذوق الأدبي مرحلة الفهم الكامل للكتاب ولسياقه وأسلوبه، فبالتالي يجير هذا الاستيعاب لتأليف كتاب مضاد يهدم طروحاته ويفند قوله ويعريه فكرياً. ولعل فكرة صديقتي ليست بجديدة على ممارستنا الفكرية، فقد رد الغزالي يوماً ما على ابن رشد بكتاب (تهافت الفلاسفة) فرد عليه ابن رشد بكتاب (تهافت التهافت) وكسبت المكتبة العربية مؤلفات ثرية أصبحت مرجعاً للدارسين إلى اليوم. أما هذه الطريقة الهمجية المتفلتة التي شاهدناها عبر المقطع حيث الزعيق والصراخ وتأليب البسطاء، فليس مكانها محاضن العلم ودور المعرفة، بل هي قد تناسب حلقات الخضار أو أماكن بيع الجملة. في النهاية لا أعتقد أن هم صاحب هذه الغزوة لمعرض الكتاب أسطر يراها خارجة في كتاب، ولكنه ضد مشروع وطني معرفي مستقبلي يحرر الأدمغة من الوصاية. وسيظل معرض الكتاب مستهدفاً لأنه النافذة الشاسعة التي سيطل منها الضوء على حندس المكان.
مشاركة :