«الإنسان ذلك المجهول» من الكتب الذائعة الصيت لديل كارنيجي. فهل حقاً أن الإنسان عالم مجهول؟ أم هو، في كثير من جوانبه، عالم معلوم، رغم أنه سر من أعقد أسرار الكون والحياة وما فيها من مخلوقات؟ ففيه «انطوى العالم الأكبر» كما قال محيي الدين ابن عربي. ولو كان البحر مداداً لتسجيل العوالم الخفية لذلك المخلوق العجيب لنفد مداد البحر دون أن ينفد سجِّلُّ الكشف خفاياه! لكنت أعيد قراءة رسالة «تداعي الحيوان على الإنسان» لإخوان الصفا وخلّان الوفا، من العصر العباسي. وهي محكمة حيوانية لبني البشر! شكت البهائم شرورَ ومفاسد وطباع الإنسان منذ هبوط آدم إلى الأرض، وتطرّقتْ إلى قضية الحسد، وقتْل قابيل أخاه هابيل... ثم تناسُل البشر وملء الأرض الآمنة جوراً، وسيلان الدماء فيها نهوراً. وقُرعت أجراس خواطري حول داء الحسد. وتداعت الخواطر من أساطير الإغريق، والرومان، والفراعنة، والبابليين، وتحذير القرآن الكريم من شر الحسد والحاسدين. في اللغة أن الحسد هو تمنّي الحاسد زوال النعمة عن المحسود، والرغبة في تحوّلها إلى الحاسد، أو أن تُسلب هذه النعمة من المحسود... وكفى! وهي من «فصيلة» الغَيرة القاتلة. في حين أن الغبطة هي التمنّي بأن يكون لك ما للآخر من نعمة، دون الرغبة في زوالها عنه. أبو تمام دلّنا على منهج نفسي في الانتقام من الحاسد بقتله... بالصبر عليه! قال: اصبرْ على كيد الحسود فإن صبرك قاتلهْ كالنار تأكل بعضَها إنْ لم تجد ما تأكلُهْ ويرى أن للحسد منفعة وهي نشر فضيلة المحسود! كاشتعال النار في عود البخور حيث تنشر طيبَه: وإذا أراد الله نشْرَ فضيلة طُوِيَتْ أتاح لها لسانَ حسودِ لولا اشتعال النار في ما جاورتْ ما كان يُعرَفُ طيبُ عَرْف العودِ وشكسبير في مسرحية يوليوس قيصر جعل خنجر بروتوس، صديق قيصر الحميم، رمزاً للحسد حين كانت أول طعنة في ظهر القيصر في مجلس الشيوخ من صديقه الحميم؛ فأعاد لنا ذكرى الطعنة النجلاء لقابيل في رأس أخيه هابيل. ومَن لا يتذكر قصة الحسد الكبرى في بلاط سيف الدولة الحمداني، بين أبي فراس والمتنبي وتلك المساجلة الفنية المثيرة بينهما في حضرة الأمير، ومؤازرة مناصري أبي فراس من الحاسدين الآخرين وعلى رأسهم اللغوي ابن خالويه ؟. فلنتذكر قول المتنبي لسيف الدولة، حين ضربه ابن خالويه بالمفتاح فجرح جبهته، وسال الدم منها، دون أن يُبدي سيف الدولة أي اعتراض أو تأنيب: إنْ كان سرَّكمُ ما قال حاسدُنا فما لجرح إذا أرضاكمُ ألمُ وابن أبي أصبيعة مؤلف موسوعة «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» وتحوي ترجمة كبار الأطباء من زمن الإغريق والرومان والهنود إلى عام 650 هجرية، لكنه لم يذكر أشهر أطباء عصره: ابن النفيس الدمشقي، وكلاهما من مواليد دمشق، وعملا معاً فيها، وفي القاهرة. هل هي الغيرة؟ الحسد؟ في الطب العالمي اليوم لا يُكّر إلا ابن النفيس كمكتشف للدورة الدموية الصغرى ملهماً (هارفي) لاكتشاف الدورة الكبرى، فالشمس لا يحجبها الغربال! دانتي، وضع الحاسدين في أدنى طبقات الجحيم، في: الكوميديا الإلهية، مصوّراً عذاباتهم الأبدية. فابدأ بالانتقام من حاسديك: بالصبر على كيدهم! * شاعر وناقد سوري
مشاركة :