يقول ابن الرومي: «ولي وطنٌ آليتُ ألّا أبيعَه وألّا أرى غيري له الدهرَ مالكا فقد ألِفتْه النفسُ حتى كأنّه لها جسدٌ إنْ بانَ غودِرْتُ هالكا وحبّبَ أوطانَ الرّجال إليهمُ مآربُ قضّاها الشّباب هنالكا» فالوطن، ومعه نزعته الوطنية، جسدٌ تسكنه الروح. لكن الشاعر الألماني العظيم غوتيه، مبدع (فاوست)، يرى أن «الوطنية تفسِد التاريخ»! جملة محيِّرة تأملتها كثيراً وفكرت في نقيضها: التاريخ يفسد الوطنية. بل الوطن والبشرية! عبر العصور تطور الجسد- الوطن/ أو الوطن- الجسد: من كهف حجري، إلى كوخ قش في الغابة، ثم كوخ قصب على ضفاف الأنهار، وكوخ جليدي في القطب، وخيمة في الصحراء. وفي عصر الأساطير (والأسطورة وعي للذات والحياة) صار الوطن ملحمة، كما في الأوديسا والإلياذة، وأهرامات تكنز أسرار الفرعون- الإله. وفي العصر الديني، قديماً وحديثاً ومعاصرةً، صار الوطن كنيساً ونجمة سداسية وأرضاً موعودة من «رب الجنود»، كما تسميه التوراة، لشعبه المختار، حين دعاهم إلى إبادة الشعوب الأخرى لتأسيس دولة الرب! ثم صار كنيسة وصليباً على مقبض سيف وأسنة رماح ترفع فوقها رؤوس الكفّار المحتلين لقبر المسيح(!) ثم توسّع الوطن وصار مسجداً توحيدياً وهلالاً، ومعبداً وثنياً وتمثالاً. ثم... أصبح مذاهبَ وطوائف تغوص إلى الرّكَب في مستنقعات الدم الأسود... والأصفر! وفي العصر القومي صار الوطن والوطنية نظرية عرقية تعصبية توسعية لاحتلال الأوطان خارج الوطن- الجسد؛ فنشأت النازية والفاشية والصهيونية. ورأت الحركة الاستعمارية الأوروبية والأميركية في أوطان الآخرين: منجم فحم وألماس، وبئر نفط، وحقل غاز... فصار الوطن والوطنية غطرسة قوة إمبراطورية لتمدين المتوحشين، تحت لواء الحرية والديومقراطية! ودغدغت الأحلام الإمبراطورية دولاً (دينية) تسعى لتحقيق أمجادها الإمبراطورية القديمة. بل دغدغت أحلام وهواجس جماعات دينية لبعث مجد خلافة انقرضت انقراض الديناصور. واختلط الوطن الوثني بالأسطوري والديني والقومي؛ فاشتعلت الحروب القبلية والتعصبية القومية والدينية بحروب محلية وعالمية. وها نحن اليوم نعيش الحروب العسكرية، والصراعات المذهبية والطائفية...! فهل الوطنية هي السبب؟ إن تاريخ الوطنية والأوطان هو السبب. فالكل يعود إلى التاريخ الإمبراطوري مستلهماً منه أمجاده الغابرة حالماً ببعث طائر الفينيق ينهض من رماد النار الخامدة، حتى لو احترقت بجحيمها الحضارة البشرية كلها. النزعة الوطنية التعصبية الحمقاء تفسد التاريخ، كما يقول غوتيه. لكن التاريخ هو الذي يفسد الوطنية، بل الأوطان والحضارة البشرية. لأن المجانين، من زعماء وجماعات ومفكرين ومنظّرين مهووسين تاريخياً، يتكئون على إرث التاريخ الخاص بهم ليشعلوا العالم. والتاريخ عندهم ليس علمأ أو ثقافة وفلسفة، ولا فنوناً وآداباً، وعمارة وآثاراً... ذلك كله زندقة وهرطقة، وكفراً وضلالاً. التاريخ- بمفهومه الأعمى ذاك- محرِّض أممي على الكراهية والحقد والدعوة إلى الثأر من أعداء الأمس. في آيرلندا الشمالية يؤجج التاريخ العداوة بين الكاثوليك والبروتستانت، منذ الملك وليام الثالث (توفي 1702) إلى اليوم. التاريخ الأعمى اليوم يحرض المتعصبين الغربيين على كراهية العرب والمسلمين. ويجعل المتعصبين العرب والمسلمين يجهزون (غزوات) مقدسة على حضارة الكفر والإلحاد! ولا نريد أن نشير إلى ما يفعله التاريخ الأعمى بنا اليوم؛ فالكل يتكّئ على الإرث التاريخي الأعمى. فكان الأَولى بالشاعر غوتيه أن يقول: التاريخ يفسد الوطنية والوطن والحضارة البشرية، فلنخرج من كهوف التاريخ الأعمى إلى رحاب الحضارة المتنوِّرة. وإلا سيكون مصيرنا مصير الديناصور! * كاتب سوري
مشاركة :