في أواخر السبعينيات من القرن الماضي اتصل الرئيس العراقي الراحل أحمد حسن البكر هاتفياً ذات صباح بمدير عام وكالة الأنباء العراقية المرحوم طه البصري، وقال له إن رؤساء تحرير الصحف يشتكون من تأخر وكالة الأنباء العراقية في بث الأخبار العليا إلى ما بعد منتصف الليل ما يتسبب في تأخر طباعة الصحف وصدورها. فردّ عليه البصري بأن أخبار وصور اجتماعات مجلس قيادة الثورة ونشاطات الرئيس ترد إلى الوكالة من القصر في آخر الليل «على حين غرّة»، ولذلك تبثها الوكالة في وقت متأخر «على حين غرّة». كانت الصور تأتي في مغلف من القصر إلى الوكالة ويتم اختيار ما يُنشر منها، إذ لم تكن الهواتف المحمولة قد اخترعت بعد، حيث نستطيع الآن أن ننقل في بث مباشر كل الصور والأفلام في لحظتها وبالألوان. استاء البكر وقال إنه سيصدر أوامره للوكالة بإرسال إشعار للصحف في الصباح بأن القيادة ستعقد اجتماعاً «على حين غرّة» في الليل كي نقضي على هذه المشكلة! ولذلك على رؤساء التحرير انتظار الخبر الذي سيصلهم «على حين غرّة»! وفي أحد أيام تسعينيات القرن الماضي ظهرت صحيفة «الثورة» العراقية الناطقة بلسان حزب البعث و«مانشيتها» الرئيس يقول: هذه شعارات المسيرات «العفوية» التي ستنطلق في المحافظات اليوم. وطبعاً لا حاجة إلى التأكيد أن كل المظاهرات كانت «عفوية» وستتم معاقبة المتغيبين. إنه استخدام خاطئ لمصطلحات وتعابير في غير محلها. وكان النجم الكوميدي المصري عبد الفتاح القصري ملك المصطلحات التي يرددها في غير محلها، مثل تلك المرافعة «البليغة» التي ألقاها في محكمة الجنح دفاعاً عن قضية رفعها ضد جاره عبد الوارث عسر ويطالب فيها بإعدامه عن «سابق تصور وتصميم عامداً متعمداً»! وقد بدأ القصري مرافعته قائلاً: «يا حضرات المستشارين (لم يكن هناك إلا قاضٍ واحد) قضية اليوم هي قضية الحق ولقد ظهر الحق وزهق الباطل. إن المتهم الواقف أمامكم خلف القضبان الحديدية (كان المتهم يقف إلى جوار القصري ولا وجود لأي قفص) مجرم أثيم وقاتل لئيم اعتدى على الشرف والفضيلة.. قتل المدنية والمعمار، ولذلك و«لكل هاتيك المجاري» أطلب من المحكمة الحكم بالإعدام على المتهم شنقاً مع سبق الإصرار والترصد». في الشهر الماضي قام حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بجولة مفاجئة في بعض إدارات الحكومة «الذكية» تعمد ألا يرافقه فيها أحد باستثناء شخص يحمل هاتفاً محمولاً لتصوير الجولة، فاكتشف تغيب العاملين ما دفعه إلى إقالة تسعة موظفين كبار من مناصبهم. وهذه هي فوائد الجولات المفاجئة التي لا يعلن عنها مسبقاً. وفي دول عربية أخرى يعلن التلفزيون أن رئيس الوزراء أو الوزير سيقوم في اليوم التالي بزيارة «مفاجئة» لمستشفى أو مصنع أو دائرة حكومية. وشاهدنا مثل هذا في كثير من الأفلام العربية، حيث تبدأ الاستعدادات لاستقبال المسؤول الكبير من وضع الزهور في المداخل والممرات وغسل السلالم، حيث يقول المدير للعاملين «عاوزكم تلحسوا الطرقات لحس بألسنتكم»، وشاهدنا أيضاً كيف يتم رصّ أواني الورود والأشجار في المنطقة التي يزورها المسؤول الكبير ثم يتم رفعها فور انتهاء الزيارة. قبل فترة قصيرة أعلن التلفزيون المصري عن زيارة «مفاجئة» سيقوم بها في اليوم التالي وزير الصحة لتفقد المستشفيات والأوضاع الصحية في محافظة الإسكندرية. وطبعاً كان الحال «عال يا عبعال». ومثلها ما حدث في زيارة «مفاجئة» لإحدى المحافظات قام بها رئيس وزراء مصر السابق إبراهيم محلب ونشرت تفاصيلها الصحف حيث رافقه وزيران وجيش من المرافقين والصحافيين الذين غطوا المناسبة التي تمت «على حين غرّة». ولعل القراء شاهدوا فيلم «الوزير جاي» من إنتاج عام 1986 وبطولة وحيد سيف وصلاح قابيل، حيث يتلقى الوزير سيلاً من شكاوى مراجعي إحدى الدوائر التابعة له، فيقرر زيارة الدائرة على الطبيعة. ويتم تبليغ المدير الفاسد بموعد الزيارة «المفاجئة» فينشغل الجميع بتنظيف الغرف والممرات ووضع الزهور والشجيرات، وتبرع أحد الموظفين المتنفذين بتأليف «نشيد وطني» خاص بالوزير، بينما نظم منافق آخر «جنجلوتية» شعرية في مدح الوزير. وكان الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك قد زار قبل فترة قصيرة من تنحيه إحدى القرى القريبة من القاهرة، والتقى عائلة فلاحية وشرب الشاي مع أفرادها وضحك من نكاتهم، ثم اتضح بعد أيام أن الزيارة كانت تمثيل في تمثيل وأن الحاشية أوهمت مبارك أن هؤلاء الممثلين فلاحون أباً عن جد، ولم تكن الزيارة «على حين غرّة».
مشاركة :