ليس سهلاً أن تجد عربياً دون الثلاثين من عمره عرف أو سمع أو قرأ للمفكر السياسي السوري المعارض صادق جلال العظم الذي رحل عن دنيانا في الشهر الماضي في منفاه الاختياري في ألمانيا. كان العظم ملء الأسماع والأبصار في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، ولا تكاد تفتح صحيفة أو مجلة أو تستعرض رفوف الكتب الجديدة من دون أن تلمح اسم وصورة صادق جلال العظم. كان جيلنا الأربعيني الولادة الذي أدرك حواسه كاملة في الستينيات وما بعدها يأكل ويشرب وينام مع نجيب محفوظ وغسان كنفاني ويوسف إدريس وعلي الوردي وغائب طعمة فرمان ونزار قباني وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وجبرا إبراهيم جبرا وأدونيس وسعد الله ونوس ومحمد مهدي الجواهري وأنسي الحاج وليلى بعلبكي وغادة السمّان وفتحي غانم ويوسف السباعي وعبد الرحمن الشرقاوي ومحمد الماغوط وإحسان عبد القدوس ولطفي الخولي ويحيى حقي ومحمود أمين العالم ورجاء النقاش ومظفر النواب ولميعة عباس عمارة وعبد الرزاق عبد الواحد وفؤاد التكرلي وبلند الحيدري وسعيد عقل. ومعهم العظم الذي أعترِف بأنني لم أكن أتحمل سوداويته ونقده المحبط لكل شيء مهاجماً اليساريين واليمينيين والمتدينين والملحدين والمنافقين. هذا في المقهى الثقافي العربي، أما في المقهى الثقافي الغربي والشرقي فهناك إرنست همنغواي «الشيخ والبحر» والبير كامو «الطاعون» وأرثر ميللر الذي اشتهر بزواجه من مارلين مونرو أكثر من رواياته، والكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز صاحب رواية «مائة عام من العزلة» التي صدرت في عام 1967م وصارت افتتاحيات للصحف من «نيويورك تايمز» الأمريكية إلى «اتحاد الشعب» الناطقة بلسان الحزب الشيوعي العراقي وبيانات للثورات الثقافية في الشرق والغرب من شارع المتنبي في بغداد إلى سور الأزبكية في القاهرة. كان (المثقف) فينا من تلك الأجيال إذا خرج من منزله وهو لا يحمل تحت إبطه أحد دواوين أو مؤلفات هؤلاء الأدباء فهو ليس (مثقفاً) ولا (حاجة)! كان الكتاب تحت إبطنا أكثر أهمية من الحذاء في قدمنا، على عكس أيامنا الحالية «الشامخة»، حيث الكتب على الأرصفة والأحذية خلف الواجهات الزجاجية في دكاكين مكيفة. ليس لأحد محل من الإعراب إذا جلس في المقهى ولم يفتح بكلتا يديه صحيفة اليوم. لكن الصحيفة تطورت إلى درجة مذهلة في الثمانينيات حين كان الجنود لا يتناولون (القصعة) إلا وهم يفرشون الصحف تحت الخبز الأسمر والبصل الجاف والأواني المعدنية المحروقة. ولعلها نكتة بايخة أن رئيس النظام العراقي السابق زار الجبهة العراقية – الإيرانية ذات يوم واستفسر من الجنود عمّا إذا كانت الصحف اليومية تصلهم بانتظام فرد عليه أحد الجنود بعفوية: لا يا سيدي، فنحن منذ ثلاثة أيام نأكل على الأرض! كان الهواة من أمثالنا والمبتدئون و(المتثاقفون) والمتثائبون يكتفون بأضعف الإيمان للتشبث ب «ذيال» دشداشة الأدب والثقافة والتجديد والوجودية والسريالية والبعد الثالث وفرانسواز ساغان «صباح الخير أيها الحزن» وجان بول سارتر «الوجود والعدم» وسيمون دي بوفوار «مذكرات فتاة ملتزمة» وغادة السمّان «أعلنت عليك الحب» وليلى بعلبكي «سفينة حنان إلى القمر»، فنجلس على كراسي رصيف مقاهي الباب الشرقي في بغداد نستعرض آخر معلوماتنا عن السينما الأمريكية وزواج نادية الجندي، بينما ينزوي داخل المقاهي الماركسيون والقوميون والبعثيون والوجوديون والملحدون يتبادلون الشتائم والانتقادات ثم يخرجون (وحداناً) و(زرافات) إلى الحانات الشعبية القريبة لتناول الجعة و(المنكر) العراقي مع أطباق اللبلبي وشرائح البطاطس المقلية واللبن بالخس أو الخيار، ويدعون بطول العمر لأبي الطيب المتنبي والبرتو مورافيا ومكسيم غوركي وتولستوي وموريس لبلان مؤلف روايات «أرسين لوبين» وعبد الباسط عبد الصمد الذي حين يسمعون تلاوته في الصباح الباكر يستغفرون ربهم عن ذنوبهم «عندما يأتي المساء ونجوم الليل تُنثرُ/ إسألوا الليل عن نجمي متى نجمي يظهرُ»! في ذلك الزمان إذا أردت أن تميز نفسك عن «رعاع الأدب» فيجب أن تقرأ «الحرب والسلام» و«الأخوة الأعداء» و«البؤساء» و«قصة مدينتين» و«دون كيشوت» و«ثلاثية نجيب محفوظ» و«تحت ظلال الزيزفون» للمنفلوطي و«حمار» توفيق الحكيم وقصة حياة «تشي جيفارا» و«جان دارك» و «كفاحي» لهتلر و«المجموعة الكاملة لكلمات أغاني فريد الأطرش». ولي صديق «لطش» مفردات من الشعر الحر من هنا وهناك ولصقها مع بعضها ثم طبعها في ديوان من ثمانين صفحة أكثر من نصفها صفحات بيضاء وفراغات ونقاط وعلامات تعجب، وصار يتبختر بيننا بأنه صاحب ديوان طبع منه مائة نسخة تحمل توقيعه وبصمة إبهامه منعاً للتزوير! لكن التطرف في الأدب كان يستدعي كثيراً من قلة الأدب فكنا نجد ذلك بسهولة في مجلات «الشبكة» و«الموعد» و«السينما والعجائب» التي كان يكتب فيها صاحبها اللبناني حبيب مجاعص افتتاحية نارية إسبوعية عن سباق الخيل أو «الريسز» في بيروت تحت عنوان: «قل الحق ولا تخف»! وكنا نعمل بنصيحته فعلاً ونؤيد جميع الأنظمة السياسية ما دامت في الحكم!
مشاركة :