تزدحم رفوف المكتبات العربية بكتب التجسس والمخابرات الأجنبية التي تَحول أغلبها إلى أفلام سينمائية لقيت رواجاً واسعاً. لكنك، مهما حاولت، لن تعثر إلا على بضعة كتب عربية عن عمليات التجسس والمخابرات وحروب المعلومات. فالمكتبة الاستخبارية العربية فقيرة إلى حد العدم أو شبه العدم، على الرغم من أن بعض أجهزة المخابرات العربية من أنشط الأجهزة مع اختلاف اهتماماتها الأساسية. ومن هذه الأجهزة النشطة المخابرات المصرية والسورية والسعودية والأردنية والجزائرية والمغربية و(العراقية قبل الاحتلال). أكاد أجزم أن مصر هي الدولة العربية الوحيدة التي تكشف مخابراتها الرائدة بعض ملفاتها بين فترة وأخرى عبر مسلسل تلفزيوني أو فيلم سينمائي أو كتب هدفها الأساس تعزيز الروح الوطنية لدى المصريين خاصة، والعرب عامة، مع التركيز على الصراع العربي الصهيوني. وظل جهاز المخابرات المصرية يعمل سنوات طويلة خلف الأسوار في حربه المعقدة والدقيقة ضد «الموساد». وأول عمل لافت خرج من خلف هذه الأسوار إلى الرأي العام كان كتاب «الحرب النفسية» بجزءين من تأليف صلاح نصر رئيس جهاز المخابرات في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قبل نكسة يونيو (حزيران) 1967م، وما زال هذا الكتاب يُعتبر أحد المراجع العربية القليلة في مجال «الحرب النفسية» و«معركة الكلمة والمعتقد» وهما عنوانا الجزءين اللذين أعيد طبعهما عدة مرات. وهناك كتاب آخر عنوانه «كنت نائباً لرئيس المخابرات» من تأليف اللواء محمد عبد الفتاح أبو الفضل. في بغداد كانت المخابرات العراقية في عهد الرئيس الراحل صدام حسين واحدة من أقوى وأشرس أجهزة المخابرات العالمية، وليست العربية فقط، ونقاطها، أو ما كانوا يسمونها «محطات»، موزعة في كل القارات من إفريقيا إلى آسيا، ومن أستراليا إلى أوروبا، ومن أمريكا الشمالية إلى أمريكا اللاتينية. كان هدفها الأول إيران وإسرائيل. وفي (الاستراحة) تتفرغ إلى إحباط محاولات قلب نظام الحكم العراقي أو اعتقال صحفي مشاكس مثلي واستضافته في زنزانة حمراء انفرادية في معتقل «الحاكمية» الشهير لمدة ثلاثة أشهر انقطعت فيها أسوة بزملائي المعتقلين لأسباب شتى عن العالم خارج الأسوار الرهيبة. ولمناسبة وفاة الرئيس الكوبي فيدل كاسترو فإن الشعب العراقي مدين له بالشكر لأنه أهدى إلى صدام حسين شحنة من السيجار الكوبي الفاخر ومعها التخطيط الهندسي المعقد لمعتقل «الحاكمية» في إطار تطوير علاقات الصداقة والزمالة بين الشعبين! ولم يحدث أن كشفت المخابرات العراقية أياً من ملفاتها سوى الكتاب الذي أصدره في عام 1985م رئيس الجهاز في حينه برزان إبراهيم التكريتي الأخ غير الشقيق لصدام، وكان عنوانه «سبع محاولات لاغتيال صدام حسين»، وست من هذه المحاولات «سنية» بتوصيفات اليوم وواحدة فقط «شيعية». إلا أن المخابرات العراقية كانت المؤسسة الاستخبارية الوحيدة التي تصدر مجلة فصلية ذات تداول محدود عن عالم المخابرات توقفت بعد بضعة أعداد ولم أعد أتذكر اسمها، وكانت مقالاتها تنظيرية وإنشائية لأن الممنوعات أكثر من المسموحات وعملاً بوصية شيبوب رفيق عنترة بن شداد: «الباب اللي تجي منه الريح.. سِدّه واستريح». وكانت للاستخبارات العسكرية العراقية مجلة فصلية صدرت لعدة سنوات تحت عنوان «الهدهد» توزيعها يقتصر على تشكيلات الجيش. أين ذهبت ملفات المخابرات العراقية التي كانت تملأ أقبية وسراديب أبنيتها والمواقع البديلة؟ استولت عليها قوات الاحتلال الأمريكي في عام 2003م ونقلتها مع خبراء من «الموساد» الصهيوني إلى واشنطن وتل أبيب، وأخضعتها إلى تحليلات واسعة، ثم استولى عملاء إيران الذين يحكمون العراق اليوم على ملفات أخرى ونقلوها إلى طهران تمهيداً لما جرى بعد ذلك من تسلل وهيمنة واستيطان وتفريس وتغييرات ديموغرافية ومذهبية من أقصى شمالي العراق إلى جنوبه. كل هذه المقدمة استعدتها في ذاكرتي وأنا أقلب كتاباً تزامن صدوره في القاهرة مع رحيل الفنان محمود عبد العزيز بطل مسلسل «رأفت الهجان»، وعنوانه «المخابرات العامة المصرية» مع عنوان فرعي «إطلالة تاريخية على بعض صفحات النضال الوطني 1953-1973م» من تأليف اللواء الدكتور عادل شاهين وكيل المخابرات العامة المصرية الأسبق. وهو كتاب ثمين وتوثيقي عن حقبة حافلة بالتحديات تخللتها ثلاث حروب، تأميم قناة السويس 1956م ويونيو (حزيران) 1967م وأكتوبر (تشرين الأول) 1973م. وكل مضمون الكتاب مُعد بعناية وخبرة وخضع بالتأكيد قبل نشره إلى فحص دقيق أجد معه لزاماً عليّ عدم اجتزاء أي معلومات أو تنويهات قد يُساء فهمها. ليس لدي ما أضيفه غير موسيقى مسلسل «رأفت الهجان» لعمار الشريعي، فهي التحية الواجبة كلما وردت سيرة المخابرات العامة المصرية.
مشاركة :