عندما صحت كان ذلك الكابوس لا يزال ماثلا في ذهنها، فانطلقت بداية من الشهر الموالي في كتابة رواية بطلها الدكتور فيكتور فرنكنشتاين، بروميثيوس في عصر الأنوار، مسكون بماورائيات العالم وجوهر الحياة. العربأبو بكر العيادي [نُشرفي2016/12/01، العدد: 10472، ص(15)] معظمنا قرأ رواية “فرنكنشتاين أو بروميثيوس الحديث” للإنكليزية ماري شيليّ، ولكنْ قليلٌ منا يعرف ظروف نشأتها. تلك النشأة التي نجمت عن صدفةٍ أعجبَ من ذلك “المخلوق” المسخ الذي تحول إلى أسطورة معاصرة. كان ذلك عام 1816 على ضفاف بحيرة ليمان السويسرية، حيث التقى خمسة من الشباب الإنكليزي المتمرد، هم اللورد بايرون وعشيقته كلير كليرمونت والدكتور جون بوليدوري والشاعر بيرسي شيلي وعشيقته ماري وولستونكرافت في منزل فخم تلفّه عتمة تامة تنداح على كافة النصف الشمالي للكرة الأرضية، بسبب بركان تفجر في إندونيسيا في ربيع العام الأسبق، وغطى السماء برماد أسود جعل تلك السنة بلا صيف. ولم يجدوا سبيلا لتزجية الوقت سوى الخيال، حيث اقترح بايرون أن يكتب كل واحد منهم حكاية أشباح، فألف بوليدوري حكاية امرأة بوجه ميت، ووضع بيرسي شيلي مسودة حكاية عن مصاصي الدماء سوف يستغلها في قصيدته “مازيبّا”؛ فيما أعلن بايرون وعشيقته عجزهما، أما ماري التي ستتزوج بيرسي بعد ذلك بعامين وتُعرف باسم ماري شيلي، فقد قررت أن تكتب حكاية تتناول المخاوف الغامضة الكامنة في الإنسان التي تستثيرها فجأةً فظاعةٌ مرعبة. ورغم صغر سنها، كانت قد اطلعت على تجارب الإيطالي لويجي غالفاني (1737-1798) في إنعاش الجثث كهربائيّا، ونظريات البريطاني إيرسموس داروين (1731-1802) عن تنشيط المادة التي لا حراك بها. وفي ليلة من ليالي شهر يونيو، رأت فيما يرى النائم رجلا ممتقعا جاثيا عند قدمي مخلوق قام بتجميع أعضائه. ثم رأت ذلك المخلوق البشع وهو يقوم، بفعل آلة غريبة خلفه، بحركات مضطربة وكأنه نصف حيّ. عندما صحت كان ذلك الكابوس لا يزال ماثلا في ذهنها، فانطلقت بداية من الشهر الموالي في كتابة رواية بطلها الدكتور فيكتور فرنكنشتاين، بروميثيوس في عصر الأنوار، مسكون بماورائيات العالم وجوهر الحياة، فانفتحت لها أبواب المجد وعدّها المؤرخون مبتدعة الخيال العلمي. إذا كانت الحاجة أمّ الاختراع، فإن الصدفة أمّ الابتكار، رأيناها في هذا المثال، وكذلك في مثالين شهيرين هما قاعدة أرخميدس عن قوة الطّفو، وقانون الجاذبية لدى نيوتن، ولكن شيلي وأرخميدس ونيوتن كانوا يملكون خلفية علمية كي يتلقفوا تلك الصدفة ويثبتوا قاعدة رياضية أو قانونا فيزيائيا، أو يبتكروا جنسا أدبيا، أي أن ذلك في النهاية ليس متاحا لكل الناس. عندما حدّثَنا أستاذُ الفلسفة أيام الدراسة عن تفاحة نيوتن، طلع من بيننا من قال له: “وأين الجهد في ذلك، وقد وقعت عليه تفاحة عن طريق الصدفة؟” فردّ عليه: “لو وقعت عليك لاكتفيت بأكلها”. كاتب من تونس مقيم بباريس أبو بكر العيادي :: مقالات أخرى لـ أبو بكر العيادي الصدفة أمّ الابتكار , 2016/12/01 الإنسان مدمن حكايات , 2016/11/24 زنزانة تتحول إلى ورشة للفن الدرامي في مسرحية التمثيل, 2016/11/21 لماذا نقرأ الروايات؟, 2016/11/17 الفن المكسيكي يستعرض عنفوانه الجمالي في معرض باريسي, 2016/11/14 أرشيف الكاتب
مشاركة :