صديق علماني لي، طالما نتحاور ونختلف معاً في كافة المسائل والقضايا، فمشاربنا مختلفة وخلفياتنا متباينة، لكني لا أنكر أنني أستمتع بمحاوراته كثيراً، فإن ما يثار بيننا يزيدني قناعة بمنهجيتي الإسلامية ومرجعيتي الإلهية المعصومة. تساؤلاته وتشكيكاته تدفعني لمزيد من التفكير في الإجابات والحلول، فتتعمق عندي معرفتي بأبعاد مرجعيتي، ويتبين لي منها ما لم يكن قد تبين لولا هذه المناقشات والمجادلات. ويشبه هذا إلى حد كبير ما نادى به فيلسوف الإسلام وحجته (أبو حامد الغزالي)، من اعتماد الشك طريقاً لليقين، فعندما يثور الشك حول حقيقة ما، يثور معه في ذات اللحظة التفكير في محاولة إثباتها. وهذا ما يحدث حقاً عند مناقشة مخالف لنا في مرجعيتنا الإسلامية؛ حيث يثير هو الريب والشك حول القضايا، فيدفعنا إلى التفكير للبحث لإثباتها وتجليتها، فيكون بعدها اليقين الأقوى منا بها، ويبقى هو على ما ذهب إليه ابتداء، لكن مع اضطراب وخلخلة، وذلك بعد رد الحجج وإزالة الشُّبه، وهذه خطوة كبيرة، وتأتي بعدها خطوات أخرى، تكون كفيلة بإعادته إلى فطرته الصحيحة. قررت أن أسجل حواراً بيني وبينه، وسعيت إلى ملاقاته لذلك، لكنه شُغل عني، فقررت أن أقيم حواراً أقوم أنا فيه بالرد عنه، فقد عرفت كل رؤاه وأفكاره، وحفظتها عن ظهر قلب. وكان ذلك الحوار المتخيّل: (1) قلت: دعني أسألك سؤالاً: هل تؤمن بالله ابتداء؟ احمَّر وجهه وانتفخ وقال: سؤال ساذج، وهل تتخيل أني لا أؤمن بالله؟ هكذا أنتم أيها الإسلاميون، تميلون إلى الرمي بالكفر، وأسهل طرقكم لإسكات المخالف أن تخرجوه من زمرتكم، ثم لا يكون نقاش ولا حوار. قلت: هوّن على نفسك، إنما هو سؤال له ما بعده، لم أقصد مطلقاً رميك بكفر أو ردّة. قال: إذن، هاتِ ما بعده. قلت: ما تخيلك لمراد الله منا في هذه الحياة، وكيف تجيب عن سؤال: لماذا خلقنا الله وخلق لنا هذا الكون بكل ما فيه؟ قال: مراده أن نعيش وننعم. قلت: وهل تتخيل أن الله خلقنا وخلق لنا كل ذلك، من أجل أن نعيش وننعم فقط، ما هكذا أبداً تكون مذاهب العقول السليمة، فلو كان مراده منا العيش والتنعم لما أخرجنا من الجنة ولأبقانا فيها، فهي أرض النعيم والخلود. إنما كان مراد الله منا أن نحيا في هذه الحياة على نهجه ومراده، ثم يكون الثواب والنعيم في الآخرة. قال: نعم، لا ضير، مراده منا أن نعيش وننعم وأن نعبده. قلت: إنه لمن الجيد أن يكون هذا رأيك، سواء كنت مقتنعاً به أو هو وليد اللحظة التي نتناقش فيها، فالكثير منكم أيها العلمانيون لا يرون الحياة إلا حياة ومتعة، ولا يعتقدون بمراد الله فيها. والسؤال، ما هي كيفية مراد الله منا؟ قال: العبادات المعروفة من صلاة وصيام وحج وغيرها. قلت: وكيف عرفت أن هذه العبادات هي مراد الله منا؟ قال: هذا ما ورد في القرآن. قلت: وإذا كان الله قد أورد في قرآنه إلى جانب هذه العبادات أشياء أخرى، وطلبها بنفس الصيغة، وهي التي نسعى نحن الإسلاميين إلى إقامتها والتعبد بها. فأحكام الشريعة أوردها الله في قرآنه بنفس صيغة الأمر والطلب التي طلب بها العبادات الشهيرة، والآيات أكثر من أن تحصى في هذا المقام. قال: أنتم تفهمون ذلك من نصوص القرآن، ونحن نفهم غير ما تفهمون. قلت: فمن يكون الحكم بيننا؟ قال: لكل منا فهمه ونظره، وليس هناك حكم إلا لله، وحكمه لن يكون إلا في الآخرة. قلت: ولكننا في كل صنعة نذهب إلى أربابها إذا ما استعصى علينا شيء فيها أو غمض. قال: نعم. قلت: فلماذا لا نذهب في فهم القرآن إلى أهله من المفسرين والعلماء؟، الذين هم أولى الناس بشرحه وتبيينه، فنحن لا نفتي في الطب بأهوائنا، بل نذهب للأطباء، وكذلك في الهندسة والكيمياء وغيرها. لكل علم أهله وخبراؤه، وعلم القرآن له أهله وخبراؤه، وهم يقولون ما نقوله نحن الإسلاميين، من أن آيات الأحكام في القرآن هي آيات تفرض الأحكام كما تفرض آيات العبادات العبادات. (2) قلت: وهل تعترف لمحمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة؟ قال: نعم، على الرغم من سخافة السؤال. قلت: وكيف تتخيل أن تكون مهمة النبي ودوره؟. قال: التبليغ عن ربه. قلت: فلماذا ترفضون أيها العلمانيون ما بلغه النبي عن ربه؟ قال: لا نفعل ذلك. قلت: بل تفعلون، أنتم ترفضون كل سنة النبي صلى الله عليه وسلم تقريباً. قال: إنما نرفض منها ما يناقض التفكير العقلي والمنطقي. قلت: إذا كنتم مؤمنين بالله، فالإيمان به يستتبع بالضرورة إيمانا بأنه الخالق لما سواه، والعقل إذاً من مخلوقاته، فكيف تتصورون أن يصل المخلوق إلى ما لم يصل إليه الخالق، وأن يحكم بالحسن على ما قبحه خالقه، وبالقبح على ما حسّنه خالقه، ولا تنسوا أن الله هو الذي أعطى العقل القدرة على الفهم والتحليل والحكم، وليس منطقياً أن يُعطي الله للعقل قدرة أعلى مما هي لنفسه. قال: نحن لا نقول بذلك، وإنما نقول بأن ما يخالف العقل من النصوص ليس صحيح النسب للنبي. قلت: ومَن يكون الحكم في هذه أيضاً؟ إنما يكون الحكم بيننا أهل الحديث وأربابه، أولئك الذين اهتموا به رواية ودراية، ونظروا في أحوال الرواة من أولهم إلى آخرهم، فأثبتوا كذب الكذابين ووضع الوضّاعين وصدق الصادقين المتثبتين. وبالتالي، فما حكموا عليه بالصحة والقبول فهو كذلك، وليس لنا ولا لكم أن نقول بغير ذلك؛ لأنه سيكون حينها رأياً بالهوى لا يرتكز على أسس منهجية أو دراية علمية. قال: فلماذا لا نكتفي بالقرآن، حتى لا ندخل في دوامة الوضع والكذب على النبي؟ قلت: وكيف ترى القرآن، أكتاب واضح هو، أم مشكل الفهم، أم فيه وفيه؟ قال: الحقيقة أن فيه وفيه، يسهل فهمه في موضع، ويستشكل في مواضع أخرى. قلت: وهل تتخيل أن يُبقي الله إشكالاته وإغلاقاته دون توضيح وتبيين؟ لقد جعل الله سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم موضحة لمبهم القرآن ومفسرة له، ولولاها لبقي الكثير من مواضع القرآن دون بيان وتوضيح، وقد شاء الله بحفظ قرآنه إلى يوم القيامة، ومن تمام هذا الحفظ أن يحفظ سنة نبيه الموضحة والمبينة والمفسرة، وذلك على أيدي أطهار هذه الأمة من رواتها وحفّاظها وعلمائها. (3) قال: إذاً نقبل كتاب ربنا وسنة نبينا، ولا نقبل فهمكم لهما. قلت: ولا بد أن نذهب في فهمهما إلى رجالهما وأربابهما. قال: تتعدد الرؤى والتفسيرات لنصوص القرآن والسنة من أهلهما وأربابهما. قلت: وهذا مراد للشارع عز وجل، فالاختلاف في الرؤى في إطار النص الشرعي، وتعدد التفسيرات والأحكام للأمر الواحد، كل ذلك من تيسير الله لنا ورحمته بنا. قال: إذاً، ولماذا لا تقبلون تفسيراتنا ورؤانا على أنها رؤية من ضمن هذه الرؤى، وأن النصوص تسعها كما تسعهم. قلت: فرق كبير بين الآراء التي يسعها النص، وبين رأي الهوى الذي لا يرتكز إلى علم بالنص ولا بغيره من النصوص الواردة في المسألة، والتي بجمعها معا تتبين الصورة كاملة. قال: فإذا رفضتم آراءنا وتفسيراتنا واجتهاداتنا، ثم دعوتمونا لتطبيق الشريعة كما تريدون، فبأي فهم من فهومكم المختلفة تريدون تطبيقها؟ قلت: لا بد أولاً أن نوقن بأن الله قد أنزل شريعته لتحكمنا في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا، أم أنك تخالفني في هذه؟ قال: لا أخالفك، ولكني أرى أنها كانت لزمان مضى وذهب. قلت: وماذا لهذا الزمان؟. قال: فهم أهله وعمل عقولهم. قلت: لماذا يرسل الله الأنبياء؟ قال: لتبليغ الناس وهدايتهم. قلت: فلماذا يرسل نبياً بعد الآخر؟ قال: يرسل نبيا فيتبعه الناس، فإذا مات وبعُد العهد غيّر الناس وبدلوا، فيرسل بعد ذلك نبياً آخر؛ ليجدد الدين ويعيد توجيه الناس إلى الطريق الصحيح. قلت: أحسنت، ثم ختم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا نبي بعد محمد، ولهذا أرسله برسالة خاتمة خالدة، تبقى في الناس لهدايتهم إلى يوم القيامة، وقد تعهد الله بحفظها لذلك، وجعل أحكامها أحكاماً شاملة وعامة ومرنة، لتتناسب مع حكم الناس إلى آخر زمانهم، فلا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ولا دين بعده. قال: فماذا عن تعدد الفهوم والآراء للنص الواحد؟ قلت: لقد قلت لك إن هذا من السعة لنا والرحمة بنا. وكيف ترى أنت القانون الوضعي الذي يسيّرنا الآن، أما تتعدد الأفهام والرؤى في فهم نصوصه وأحكامه. فتجد الحكم في قضية يختلف من قاضٍ لآخر ومن ثانٍ لثالث، كل واحد منهم ينظر في النص القانوني الوضعي فيرى فيه رأياً مخالفاً، وإنهم ليضعون النص القانوني الوضعي، ثم يغيرونه بعد ذلك، ثم يعاودون التغيير والإضافة، وهكذا. وكيف ترى المعادلة إذاً؟ أن يكون عندك نص إلهي مطلق بفهوم بشرية نسبية، أم أن يكون عندك نص بشري نسبي بفهوم بشرية نسبية، أي الصورتين أقرب إلى الثبات وتحقيق العدالة. قال: لكننا لا نريد أن نعود لعصر الكهنوت مرة أخرى، أناس ينصبون أنفسهم ناطقين باسم الله، وكل من يخالفهم في رأي، أو يحيد عنهم في اتجاه فهو يخالف الله ووحيه. قلت: هذا غير موجود في الإسلام مطلقاً، فلا يوجد فيه مثل (الإكليريوس - رجال الدين) كما في النصرانية، أو مثل الحاخامات كما في اليهودية. لا يحتكر أحد الحديث عن الله في الإسلام، ولا يملك أحد أن يوسط نفسه بين الله وبين أحد من خلقه. وعندما يختلف أحد مع رؤية أحد في نص قرآني أو نبوي، فهو يختلف حينها مع فهم بشري قد يخطئ وقد يصيب. لكن على صاحب الرأي وعلى المختلف معه، أن يكون رأيهما محاولة لفهم النص بأسس علمية ومنطقية، لا بهوى وغرض. أي أن يكون لهما حظ من العلم بما يقولون فيه. (4) قال: أعطيتمونا تاريخياً مثالاً سيئاً للحكم، طغيان وبغي باسم الدين، وكبت للحريات وقهر للناس باسم إقامة الدولة الإسلامية وتحكيم شريعتها. قلت: هذا غير صحيح، إنما هي فرية يُرمى بها تاريخنا الإسلامي العظيم وهو منه براء. بل العكس هو الصحيح، فالعصور التي حكمت فيها بلادنا أنظمة غير إسلامية (ليبرالية أو يسارية)، هي العصور التي تلطخت بالدماء والقهر والظلم. قال: أتنكرون تلك الحروب التي قامت والدماء التي أريقت في تاريخكم الإسلامي؟ قلت: بل أنتم الذين تنسون أن أفظع وأبشع الحروب في تاريخ الإنسانية كلها هي ما كانت في عقر ديار الليبراليين واليساريين (الحرب العالمية الأولى والثانية). تلك التي قُتل فيها ما يقارب الستين مليون إنسان، وأُلقيت فيها القنابل النووية. * لا تهرب أخي الكريم من الحق المبلج إلى الباطل اللجلج، ولا تتبع الهوى فيضلك، ولا تجعل سبيلك لابتغاء الحق سبيل العقل وحده، فإنما العقل آلة للمعرفة تصيب وتخطئ، ويظهر عجزه عن أبسط القضايا، فكيف بأعظمها وأكبرها. لا بد للعقل من نور الوحي؛ لكي يرى ويبصر ويعرف. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :