ست سنوات من الانتقال السياسي والديمقراطي تعاقبت فيه ثماني حكومات على الحكم، ولم تحسم تونس بعدُ بشكل صريح خياراتها الاجتماعية والاقتصادية لإعادة البناء. العربطارق القيزاني [نُشرفي2016/12/16، العدد: 10487، ص(4)] نجح شعب التشيلي في أن يفك قيد بلاده من حكم البنادق بعد استفتاء عام 1989، الأمر الذي مكنه من قطع الطريق أمام الجنرال العسكري أوغوستو بينوشيه للجوء إلى التمديد لولاية رئاسية جديدة، كان يفترض أن تكون الثامنة منذ صعوده إلى السلطة بانقلاب عسكري عام 1973. جاء الاستفتاء الحاسم تتويجا لنضالات طويلة وضغوط دولية لم تترك خيارا “للكابيتين جنرال”، كما كان يطلق على نفسه بينوشيه أسوة بحكام المستعمر الإسباني قديما، سوى وضع حكمه على محك الإرادة الشعبية، وهي الإرادة ذاتها التي نسفها في تجربة أولى مع الديمقراطية الشعبية إبّان ذروة التوهج اليساري مطلع السبعينات من القرن الماضي. عبّد الاستفتاء الحاسم الطريق لبناء الديمقراطية الثانية في التشيلي التي اكتوت بنار الاستبداد والرصاص طيلة 17 عاما، ولكن الأهم من ذلك أن التقنية الانتخابية مكنت من تجنيب الدولة اللاتينية فصلا آخر من الدماء ومنحت بدل ذلك الشعب فرصة أن يبدأ البناء من الصفر. النتيجة اليوم أن التشيلي تمثل قصة نجاح مزدوجة في ظل انتقال ديمقراطي واقتصادي باهر، إلى جانب نسب منفخضة للفقر والبطالة، ومستوى معيشي جيد متاح لغالبية شركاء الوطن على قدم المساواة، بمن فيهم هنود المابوتشي، السكان الأصليون، وأكثر الأقليات اضطهادا في حقب الماضي. والمفارقة في هذا أن ما نجحت في احتوائه التشيلي من ردّ الاعتبار لسكانها الأصليين لا يزال حتى اليوم موضع نقاش مخجل داخل عدد من الولايات الأميركية. على أيّ حال فإنه على الرغم من التعثر الذي يعتري سياسة المصالحة، والصعوبات التي يواجهها هذا البلد اللاتيني في طيّ جراحات الماضي حتى اليوم، فإن دروسا كثيرة يمكن الاستفادة منها في تحوّل التشيلي المثير نحو دولة المؤسسات والقانون والرفاه الاقتصادي، ولا سيما أنها تشترك في سمات عدة مع الديمقراطية الناشئة في تونس، من حيث مساحة الحيّز الجغرافي وعدد السكان ومحدودية الموارد. ست سنوات من الانتقال السياسي والديمقراطي تعاقبت فيه ثماني حكومات على الحكم، ولم تحسم تونس بعدُ بشكل صريح خياراتها الاجتماعية والاقتصادية لإعادة البناء. ويبدو طريق الإصلاح الشاق بمثابة سباق حواجز اكتفت فيه الدولة وباقي شركاء الوطن بالتعويل على تقنية التوافق، وهي تقنية تحركها في الكثير من الأحيان الحسابات الحزبية السياسوية أو النقابية والقطاعية أو الفئوية الضيقة. فمن الجيّد أن يسوّق التونسيون لتجربة التوافق التي جنبت البلاد حربا أهلية كانت وشيكة، ومنحت تونس فرصة قد لا تتكرر ثانية لحيازة إحدى جوائز نوبل المرموقة للمرة الأولى في تاريخها، جائزة قد يصعب حصدها بخلاف أنشطة السلام في مجالات العلوم والابتكار. لكن في بلد يحتاج فيه جزء كبير من مكوناته إلى إعادة إعمار حقيقية، بسبب سياسات تنموية متعاقبة غير عادلة، فإن الاكتفاء بمزايا التوافق وحلول الوسط والترضيات، قد لا يكون مثمرا في مسار البناء على المدى المتوسط والطويل ما لم يكن كل شركاء الوطن مدركين لما لهم وما عليهم، وما تستدعيه المرحلة من جهود استثنائية. فلقد فاخر لبنان أيضا طويلا بالديمقراطية التوافقية، لكنه ظل حتى اليوم بلدا معطلا ومرتهنا للتقسيمات الإثنية والدينية في إدارة مؤسسات الدولة. على النقيض من ذلك، فإن ميزة تونس في كل ما يحصل من حولها أنها لم تعرف حكما للعسكر ولا الانقلابات الدموية، وهي رغم عقود الاستبداد وحكم الحزب الواحد فإنها تتوفر على موروث إصلاحي ومؤسساتي لافت يعود إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر. وقطعا لا يتطلع التونسيون اليوم إلى بناء ديمقراطية عرجاء وهي في المهد، لترسخ للتفاوت الاجتماعي والتخلف الاقتصادي. فتونس بطاقاتها الكامنة تستحق الأفضل، وهي تملك كل المقومات الثقافية والحضارية بأن تؤسس لتجربة مختلفة في حوض المتوسط كما كان الأمر مع قرطاج العظيمة، لكنها تحتاج اليوم في ما يبدو إلى دفعة استثنائية تستجيب لمقتضيات المرحلة المفصلية في بناء نموذج حكم ديمقراطي يقوم على الرفاه الاجتماعي والاقتصادي، كما يتطلع إليه التونسيون. يبرز في هذا السياق مقترح الاتحاد العام التونسي للشغل كأحد الهياكل المقارعة للسلطة في تونس، وهي النقابة العريقة وذات النفوذ الاجتماعي والسياسي الواسع، لرسم “عقد اجتماعي” كأحد المشاريع الثورية التي يمكن التوسع فيها حتى تضع الديمقراطية الوليدة على الدرب الصحيح. سيكون من المهم أن يوظف الاتحاد ومن خلفه المجتمع المدني وباقي الشركاء السياسيين والمهنيين، النجاحات السابقة للحوار الوطني من أجل التوافق حول “عقد اجتماعي” ملزم، يكون بمثابة دستور يحدد أدوار الدولة والمواطنين في مرحلة البناء والإعمار، وخارطة طريق للنهوض الاقتصادي والاجتماعي. سينطوي “العقد الاجتماعي” الذي يمكن أن تستفتي فيه السلطة مواطنيها من دون شك على تضحيات وتنازلات، لكن يتعين أن تكون مشروطة بضمانات تقدمها الدولة في الحوكمة ومكافحة الفساد، وهي ضمانات تستدعي في حدّ ذاتها إرادة ثورية. كاتب من تونس طارق القيزاني :: مقالات أخرى لـ طارق القيزاني حتى لا تكون ديمقراطية تونس عرجاء, 2016/12/16 تحديات مؤتمر الاستثمار في تونس: النجاح أو الفوضى, 2016/11/17 متى نلحق بركب كيغالي, 2016/10/25 أرشيف الكاتب
مشاركة :