لا يختلف اللبس الذي يعتري التونسيين عما هو قائم لدى المجتمع الدولي من تحول شامل ودرامي في سياسات البيت الأبيض ومحاولات التملص عن التزاماته.العرب طارق القيزاني [نُشر في 2017/07/21، العدد: 10698، ص(4)] شيء ما يحاك وراء الأكمة لا يفهمه التونسيون بشكل واضح ويثير اللبس لدى الكثيرين. فقبل سنوات وقف الرئيس الأميركي باراك أوباما ومن معه من نواب الكونغرس لتحية تونس مفجرة الربيع العربي وإعلان الدعم المطلق لبداية الانتقال السياسي في هذا البلد الصغير. جغرافيا لا تتعدى مساحة تونس 167 ألف كلم مربع وهي لا تقارن بحجمها وسط جيرانها في شمال أفريقيا، وهي ربما بمساحتها الصغيرة تغيب عن أنظار وأذهان الكثير من سكان العالم. لكن تونس يشهد لها المجتمع الدولي بأنه كان لها دور طلائعي في تغيير الخارطة الجيوسياسية في جزء مهم وملتهب من العالم، ظل على مدى عقود طويلة يرزح تحت وطأة الانقلابات العسكرية والحكم الفردي المطلق وأنظمة الجمهوريات الملكية. أيا تكن نتائج هذا التغيير على دول المنطقة وما لحق بعضها من تحول درامي نحو التدمير الممنهج، فإن تونس شكلت تجربة مختلفة في بناء ديمقراطية عربية-شمال أفريقية، مع كل الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي ما زالت تنغص حتى اليوم هذا الانتقال العسير. ورغم كل المآخذ التي تتعلق بالانحرافات التي رافقت أحيانا مسار هذا الانتقال، إلا أن ما يشفع لتونس أنها ظلت دائما تمثل نقطة ضوء، منذ جمهورية قرطاج ودستورها وحتى بدايات النهضة العربية في القرن التاسع عشر، رغم الانتكاسات التي أعقبت مرحلة التحرر من المستعمر وما تلاها من عقود الحكم الفردي. لكن تونس وفية لدورها وهي تعود كما كانت دائما لتلعب دور المحرك السياسي في المنطقة. ولعل أميركا التي وقعت اتفاقية السلم والصداقة مع تونس لأول مرة، حماية لسفنها ومصالحها التجارية في حوض المتوسط منذ العام 1797، تدرك جيدا أهمية هذا البلد الصغير في حفظ السلم في هذه النقطة المحورية من خارطة العالم. كان دائما هناك مد وجزر في علاقات التعاون بين تونس وواشنطن منذ الزيارة التاريخية للرئيس الراحل الحبيب بورقيبة إلى واشنطن بعد استقلال البلاد عام 1961 واستقباله كزعيم محرر، وهي علاقة تقوم بلا شك على المصلحة المشتركة حتى وإن كانت تتقاطع أحيانا مع مصالح المستعمر القديم في المنطقة فرنسا. لكن ما يهم اليوم وبعد ثورة 2011 أن تونس تتمتع منذ 2015 بوضع حليف أساسي من خارج الحلف الأطلسي، وهي صفة تقتصر على دائرة ضيقة من الدول خارج الناتو وتمنح بموجبها الدولة غير العضو مزايا ترتبط بالتعاون العسكري بشكل خاص ما يعني في النهاية تعزيز ما سبق من التقارب التونسي الأميركي على مدى عقود طويلة. حتى الآن تبلي تونس بلاء حسنا في الحرب على الإرهاب ويشهد لفرقها الخاصة ولجيشها رباطة الجأش في دحر خطر التنظيمات الإرهابية التي نشطت في السر والعلن وبواجهات مختلفة على مرأى ومسمع من سلطة الإخوان الصاعدين حديثا إلى الحكم بين 2011 و2013، وكانت آنذاك على مرمى حجر من الانقضاض على الدولة المدنية لولا يقظة الأمن والجيش والمنظمات الوطنية العريقة. وفي الواقع تتضارب هذه الاستماتة مع إعلان إدارة دونالد ترامب منذ قدومه البيت الأبيض، عن خفض مفاجئ للمساعدات المخصصة لتونس ذات الموارد المحدودة في موازنة 2018 بنسبة تفوق 60 بالمئة، وما يعني ذلك من تهديد للمقدرات العسكرية التي راكمتها تونس منذ سنوات وجاءت بنتائج مثمرة وحاسمة في الحرب على الإرهاب استفادت منها دون شك الكثير من دول المنطقة وليس تونس فقط. لا يمكن الجزم بأن هذه المراجعة ترتبط بحزمة من الاشتراطات الضمنية الموجهة لتونس من قبل إدارة ترامب، لكن منطقيا لن يكون هناك خيار في مطلق الأحوال يتيح لأميركا والشركاء الغربيين إدارة الظهر لتونس في هذه المرحلة بالذات. فأي خطوة باتجاه خفض الالتزام نحو الديمقراطية الناشئة يعني مزيد إغراق تونس في مشاكل إضافية تضاف إلى العجز المالي في الموازنة والإصلاحات الاقتصادية الصعبة والتوترات الاجتماعية على خلفية البطالة وتعثر التنمية الموعودة منذ أحداث الثورة، بالإضافة إلى الحرب المكلفة على الإرهاب. ومعلوم لدى واشنطن والغرب أن مكانة تونس تستمد أهميتها الإقليمية كون أي ضعف أو ترنح لمؤسسات الدولة أو انزلاقها إلى الفوضى يعني عمليا انهيار أبرز حصون جنوب المتوسط المواجهة للهجرة السرية عبر البحر. يذكر الإيطاليون كيف غزا المهاجرون التونسيون ومعهم الأفارقة خلال شهر واحد من الانفلات الأمني الذي أعقب أحداث الثورة في 2011 جزيرة لامبيدوسا بالآلاف، ولا أحد يمكنه التكهن بحجم الاجتياح في حالة الفراغ الدائم في هذا البلد ليضاف إلى الوضع الحالي المضطرب والمخيف في ليبيا. سيكون من مصلحة الحلفاء الغربيين في الناتو الانتباه إلى ما يعنيه التخلي عن تونس لأن ذلك سيعني بكل بساطة تعبيد المتوسط أمام تسلل جماعي للجهاديين القادمين من شمال أفريقيا والصحراء الكبرى نحو قلب أوروبا، إن كان ذلك خلسة أو بغض الطرف. وفي الواقع لا يختلف اللبس الذي يعتري التونسيين عما هو قائم لدى المجتمع الدولي من تحول شامل ودرامي في سياسات البيت الأبيض ومحاولات التملص عن التزاماته وعما كان شريكا في صناعته. يحدث هذا التبدل ضمن سلسلة من التراجعات ومحاولات فض الاشتباك في ملفات شملت حتى الآن اتفاق المناخ والتجارة الحرة والهجرة والمساعدات الدولية. وفي هذا ليس فقط مقامرة بالدور والنفوذ الدولي الأميركي وإنما أيضا مقامرة بأمن واستقرار الدول بما في ذلك الديمقراطية الناشئة في تونس. كاتب من تونسطارق القيزاني
مشاركة :