النظام البديل الذي أنتجته الأغلبية الإسلامية الفائزة بعد انتخابات 2011 لم يخرج بدوره عن الحسابات السياسية الحينية ما أدى الى ظهور سلطة برأسين وصلاحيات متوازية.العرب طارق القيزاني [نُشر في 2017/09/12، العدد: 10749، ص(4)] بعد ست سنوات من أحداث الثورة في تونس لا يزال نظام الحكم في مهد الربيع العربي يقبع في منطقة رمادية، فالحكومات المتعاقبة التي بلغ عددها عمليا عشرا حتى العام الحالي لم تهتد جميعها إلى وصفة “الحكومة الثورية” بمفهومها الكلاسيكي، أي تلك الحكومات التي تقطع مع كل إرث ماضوي بمجرد نجاح الثورة. على العكس من ذلك اختارت تونس مقاربة أخرى مختلفة في إرساء حكم متأرجح يقوم على استثمار جوانب من نظام الحكم القديم وإرساء عملية تطبيع شاملة مع النخب السياسية السابقة، وكأن الأمر يبدو ثورة قد استهدفت رأس السلطة لكنها أبقت على الجسم بكامله. يذهب في تقدير البعض في تونس بأن التوليفة السياسية والحكومية التي تمسك بالسلطة في البلاد بين القديم والجديد، جاءت بدفع من “الدولة العميقة” التي احتفظت بنفوذها بعد مغادرة الرئيس السابق زين العابدين بن علي، وفي المقابل فإن ما يروج للرأي العام على المستوى الرسمي هو رغبة الأحزاب والتيارات السياسية الأكثر نفوذا في تجاوز إرث ثقيل من الخلافات تعود لفترة ما قبل الثورة، عبر استراتيجية التوافق. ويجد هذا التحليل صداه في مشاريع قانونية مثل قانون المصالحة الاقتصادية الذي طرحه الرئيس الباجي قائد السبسي للعفو عن مسؤولين وموظفين في نظام الحكم القديم وإعفائهم من الملاحقة القضائية في دعاوى ترتبط بالفساد، كما يجد صداه أيضا في سياسة الحكومة ذاتها عبر التحوير الوزاري الموسع، والذي لم يجد حرجا في ضم وزراء بارزين من حكم بن علي على رأس وزارات سيادية حساسة (الداخلية والدفاع). وقد يذهب هذا التحليل إلى اعتبار هذا التعديل الوزاري كخطوة استباقية لفرض المصالحة الوطنية كأمر واقع بغض النظر عن أي شروط أو ترتيبات مسبقة ممن وضعوا أنفسهم أوصياء على المصالحة بعد الثورة. إذا كان الأمر كذلك فإن هذه المقاربة تنسف تماما أي حديث عن مشاريع العدالة الانتقالية كما تجعل من عمل هيئة الحقيقة والكرامة المكلفة بالتقصي عن انتهاكات الماضي مجرد ديكور وكلام في الهواء. إذ لا يخفى على وسائل الإعلام المحلية ما تضج به هذه الهيئة نفسها منذ بدء عملها من خلافات داخلية سياسية، فضلا عن الانتقادات التي تلاحقها بشأن سياستها الانتقائية في التعاطي مع تاريخ الحكم في البلاد. لقد نجح الفرقاء السياسيون في تونس بالفعل في تجاوز مطبات كثيرة خلال فترة الانتقال السياسي، ليس أقلها خطورة الحرب الأهلية، ما كان ينذر بنفق مظلم لو لا استراتيجية التوافق والحوار الوطني، الذي توج لاحقا بنوبل السلام، لكن التوافق ليس قانونا أو بندا دستوريا يبرر إبقاء المسار السياسي في ديمقراطية ناشئة رهينة له رغم الانتهاء من تركيز أغلب المؤسسات الدستورية. وفي الواقع تبدو مشكلة الحكم في تونس أعمق من ذلك. فقد تبنى الفرقاء السياسيون، وعملا بمبدأ التوافق، إبان انتصاب المجلس الوطني التأسيسي بعد الثورة في 2011، نظاما سياسيا هجينا صلب الدستور الجديد الصادر عام 2014. ومن هنا كانت المعضلة الكبرى في إدارة السلطة بعد الثورة. عكس النظام السياسي الجديد مخاوف النخبة السياسية وتحفظهم من النظام الرئاسي الذي تبناه السياسيون الأوائل في دستور تونس الأول بعد الاستقلال عام 1959. وكان نظام الحكم آنذاك قد انحرف تدريجيا إلى نظام “رئاسي” حيث تحول الرئيس إلى محور النظام بفعل الصلاحيات الكثيرة التي ألحقت له على حساب باقي المؤسسات الدستورية إلى درجة أن التعديل الدستوري لعام 1976 قد أقر رئاسة مدى الحياة للزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، ما يعني على أرض الواقع دكتاتورية مقنعة. تفهم من هذا السياق الهواجس التي اعترت الأحزاب العائدة إلى المشهد السياسي بعد 2011، خصوصا تلك التي نشطت في السرية ضمن المعارضة الراديكالية في التيار الإسلامي أو اليسار الشيوعي، من نظام الحكم الرئاسي. غير أن النظام البديل الذي أنتجته الأغلبية الإسلامية الفائزة بعد انتخابات 2011 لم يخرج بدوره عن الحسابات السياسية الحينية ما أدى الى ظهور سلطة برأسين وصلاحيات متوازية، بين الرئيس ورئيس الحكومة، مع أغلبية نسبية للأخير، وتغول مدروس للبرلمان لم يضع في الحسبان تداولا مفترضا للسلطة بقوة الانتخابات على المدى المنظور، وهو ما كشفت عنه انتخابات 2014 عندما دارت الدوائر على الإسلاميين ففقدوا طموحهم الأول في الاستحواذ على الحكومة عبر الأغلبية البرلمانية. اليوم لا يخفى على النخبة السياسية بتونس، في السلطة أو المعارضة، ولدى فقهاء القانون الدستوري الهنات الكثيرة التي كشف عنها نظام الحكم الهجين، فلا هو رئاسي ولا هو برلماني ولا هو حتى رئاسي معدل بشكل واضح، الأمر الذي دفع رئيس الدولة الباجي قائد السبسي إلى الدعوة إلى مراجعة هذا النظام والقيام بتعديلات دستورية من شأنها أن تعطي مرونة أكبر لمركز السلطة الحقيقي في اتخاذ القرارات، كما من شأنها أن تمنح الدولة هامشا أوسع من الاستقرار، هي في أمس الحاجة إليه من أجل تخطي مرحلة الانتقال الاقتصادي المتعثرة. كاتب تونسيطارق القيزاني
مشاركة :