هناك الكثير من دون شك مما تعتز به تونس بشأن الحريات إذا ما قيست بجيرانها في المنطقة، لكن التراخي في مسألة البناء وإعلاء سلطة القانون يفتح الباب على مصراعيه للانفلات الرقمي.العرب طارق القيزاني [نُشر في 2017/04/29، العدد: 10617، ص(4)] يطبق مناخ من انعدام الثقة على تونس وينذر بإغراق الجميع في الوحل. فحرب التسريبات التي تدور رحاها في العالم الافتراضي تبدو أنها ماضية قُدما نحو ابتلاع الجميع دون أن تستثني أحدا مستقبلا. قد تكون تونس مدينة إلى حد ما إلى جوليان أسانج، مؤسس موقع ويكيليكس. ووضع أسانج على ذمة الجمهور ما لم يكن متاحا لهم أيام حكم النظام السابق من حقائق ومعلومات أشعلت حديث المقاهي والشوارع، قبل أن تشعل المدن وأركان النظام، لكن ليس إلى درجة أن يمتهن الجميع لعبته في صناعة الرأي العام وتوجيهه. وتحوّلت فجأة منابر إلكترونية إلى “مجموعة ويكيليكس” هنا وهناك وفي كل مكان في تونس. ولا يكاد يمرّ يوم دون أن يستفيق الجمهور على وقع فضيحة جديدة من تسريبات صوتية ووثائق مسربة. وصراع النفوذ والتجاذب بين أحزاب السلطة وسطوة رؤوس الأموال عبر التشبيك القائم مع وسائل الإعلام الموجهة، أمور لم تعد تحاك في الخفاء كما كان العهد حتى وقت قريب مع “الدولة العميقة”. وأصبحت تصفية الحسابات اليوم على الملأ ولم تعد المجالس الضيقة عصيّة على الاختراق. وتتمثل المشكلة الأعمق في أن ثقافة التسريب أصبحت إحدى آليات إدارة الأزمة المتشعبة في تونس، من قلاقل اجتماعية وصولا إلى حالة الإرباك الاقتصادي. وتشترك في الأزمة منظمات من المجتمع المدني وأحزاب معارضة وأخرى في السلطة، بل إن الدولة نفسها أصبحت لاعبا فاعلا في هذا المستنقع. ويبرز حزب نداء تونس الحاكم، الذي مثّل حتى وقت قريب أمل التونسيين في رؤية بديل سياسي بُني على أنقاض مشروع دولة الإخوان، كأحد أبرز ضحايا هذه الحرب الرقمية المدفوعة بوقود الصراع القائم بين أجنحته. وكل ما تبقى من الحزب المشتت اليوم، بسبب الخلافات الداخلية، مجرد لوبيات مجهرية تتسابق في نشر غسيل بعضها البعض في الفضاء الافتراضي على مرأى ومسمع من ناخبيه ومؤسسات الحكم. الدولة نفسها استفادت من لغط العالم الافتراضي، فلقد أثبت أسلوب التسريب فعاليته في إزاحة أحد الوزراء القادمين من جبهة اليسار النقابي القوي. وأقيل عبيد البريكي، وزير الوظيفة العمومية والحوكمة السابق، في الإعلام قبل صدور قرار حكومي ومثله ربما سيكون مآل وزيرة المالية الحالية لمياء الزريبي بعد أزمة انهيار الدينار وتصريحاتها التي أربكت أسواق المال وأفزعت المؤسسات. ولا حديث الآن في وسائل الإعلام المحلية ومواقع التواصل الاجتماعي، ذات التأثير القويّ في تونس، سوى عن تعديل وزاري حتمي يطيح بأكثر من رأس في الحكومة ويضع في نهاية المطاف الائتلاف الهش أمام واقع سياسي جديد. الواضح في كل ذلك أن وسائط الاتصال التقليدية والبديلة تحوّلت عبر بث التسريبات، إلى منصات اختبار ليس فقط لقياس رجع الصدى عند المتلقي وإنما أيضا لتيسير عملية هضم القرارات الحكومية قبل ختمها رسميا. في تونس من يملك الفضاء الرقمي يملك المعلومة ويملك الميدان والجمهور ويدير دفة الصراع على هواه. ويتذكر الجميع ما حدث خلال الانتخابات الرئاسية الحامية في 2014، وكيف حوّل آنذاك الرئيس المؤقت السابق المنصف المرزوقي أداء حزبه الضحل في البرلمان إلى قوة تعبئة جماهيرية. ووظفت الميليشيات الإلكترونية كل آليات الشحن عبر الفضاء الرقمي، وهي عوامل جعلت المرزوقي رقما صعبا في السباق الرئاسي مع منافسه المخضرم الباجي قائد السبسي. والمفارقة أن تونس التي كانت مهدا لمقررات قمة مجتمع المعلومات في 2005 بعد قمة جنيف في 2003، وما تخللها من دعوات لحماية مجتمع المعرفة والمعلومات والاستخدام الآمن للفضاء الرقمي، تحوّلت اليوم إلى إحدى المنصات المتقدمة في نسف تلك المقررات وإشاعة انعدام الأمن الإلكتروني. ولا شيء قادر في ما يبدو على كبح هذا التيار الجارف في تونس خلال هذه المرحلة الانتقالية في ظل الفراغ القانوني واختراق رؤوس الأموال، على الرغم من المحاولات المستميتة من المجتمع المدني والمنظمات المستقلة لتنظيم قطاع الإعلام أولا والدفاع عن أخلاقيات المهنة ثانيا. وفي الواقع، فإن تنظيم استخدام الفضاء الرقمي في بلد عانى طويلا من التضييق والقمع الإلكتروني يطرح مشكلة وحساسية بالغة كونه قد يشكّل عقبة أمام حماية الحريات العامة وحرية الصحافة والحق في النفاذ إلى المعلومات وتداولها. ورغم أن أحدث تصنيف لـ”مراسلون بلا حدود” بشأن حرية الصحافة يضع تونس في صدارة الدول المغاربية، إلا أن المخاوف من الارتداد إلى الوراء تظل قائمة. وبحسب تقرير المنظمة، فإن المناخ الحالي لا يزال يحُول دون ترسيخ فعلي لحرية الصحافة، بسبب استمرار الرقابة الذاتية وتضارب المصالح داخل المؤسسات الإعلامية خاصة. وهناك الكثير من دون شك مما تعتز به تونس بشأن الحريات إذا ما قيست بجيرانها في المنطقة، لكن التراخي في مسألة البناء وإعلاء سلطة القانون يفتح الباب على مصراعيه للانفلات الرقمي، وهو أشد فتكا وتدميرا من حروب الشوارع. كاتب تونسيطارق القيزاني
مشاركة :