غياب الثروات وانعدام النمو سيظلان يدفعان بشكل دائم الجوعى واليائسين في القارة إلى المخاطرة بحياتهم في البحر. وبدل إدارة الظهر للضحايا يتعين على الأوروبيين بكل بساطة استخلاص ديونهم القديمة.العرب طارق القيزاني [نُشر في 2017/06/25، العدد: 10674، ص(6)] لن تكون الاحتجاجات المناهضة للعولمة والرأسمالية، وحدها في انتظار زعماء قمة العشرين في هامبورغ في يوليو، هناك أسئلة وتطلعات كبيرة بشأن ما سيقدمه هذا التجمع الثري لأفريقيا بشكل خاص، في ظل القلق الدولي من استمرار مآسي الهجرات السرية في حوض المتوسط. لقد تحدث الساسة في ألمانيا بشكل مسهب عن ضرورة تأسيس “حلف من أجل أفريقيا” قبل انعقاد القمة لكن لا أحد تحدث عن الالتزامات التي يتعيّن وضعها على الطاولة. كيف يمكن مساعدة أفريقيا في وقت تزداد فيه اقتصادات الشمال القائمة على اغتنام الفرص أكثر جنوحا نحو رأسمالية جديدة مرشحة لأن تكون أشد استنزافا لطاقات أفريقيا. يأتي الحديث عن ذلك مع اعتزام الأوروبيين الضغط من أجل توجيه جزء من الاستثمارات الخاصة نحو أفريقيا حتى تتقاسم الأعباء مع المساعدات الحكومية. تعهدت ألمانيا في اجتماع برلين قبل القمة بتخصيص حجم مساعدات يناهز 300 مليون يورو لدعم جهود الدول المكافحة للفساد والمدافعة عن الشفافية وحقوق الإنسان في أفريقيا على أن يكون ذلك مقدمة لخطط أوسع لاجتذاب الاستثمارات إلى القارة، مع أن الحديث لم يكفّ عن آمال أبعد من ذلك كفكرة طرح “مشروع ميركل” في أفريقيا، أسوة بمشروع مارشال الأميركي للنهوض بأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. لكن تنطوي تلك الطموحات والآمال على مفارقة مخيّبة إذ تكفي مقارنة حجم الأموال المخصصة للإصلاحات مع حصة ألمانيا وحدها من سوق تصدير الأسلحة والبالغ هذا العام وحتى أبريل الماضي 2.42 مليار يورو، نصفه موجه إلى دول من خارج الاتحاد الأوروبي ومن بينها دول تعاني من أوضاع متردية لحقوق الإنسان، وهي ذات الدول التي قد تكون معنية في نفس الوقت بحوافز الإصلاحات. لطالما مثلت هذه الحلقة الدائرية المفرغة سمة العلاقة القائمة بين كبار مجموعة العشرين من جهة وأفريقيا وباقي دول العالم النامي من جهة ثانية، وهي في الغالب تجعل من نادي دول العشرين كمن يدفع باليمنى ويسحب باليسرى. وككل قمة يفترض أن يتصدر ملف الهجرة مباحثات دول العشرين بشأن أفريقيا في مسعى لتجديد السياسة النمطية للعصى والجزرة مع أفريقيا عبر برامج تعاون مشروطة. لكن أوروبا والقوى الكبرى تصرّ أن تتغافل كل مرة عن أن جزءا كبيرا من المسؤولية في هذا الملف يلقى تاريخيا على عاتق الاقتصادات الصاعدة منذ زمن الاكتشافات الجغرافية الكبرى وأيام التجارة المثلثة في المحيط الأطلسي. بسبب سياسة الأبواب المغلقة في وجه الهجرات الدولية فُقد ما يربو عن خمسة آلاف مهاجر أفريقي في قاع البحر الأبيض المتوسط في 2016 فقط بينما يرابط قرابة المليون عبر سواحل ليبيا المضطربة يتحينون فرصة المخاطرة بحياتهم. لكن الأرقام حتى الآن لا تقارن بحجم الخسائر والمآسي التي لحقت الضحايا الأجداد على السواحل الغربية للقارة. يتناسى الأوروبيون حقيقة أن 12 مليونا من الأفارقة قد تم تهجيرهم عنوة من أوطانهم غرب القارة على متن السفن الشراعية. كما يتناسون أن هؤلاء من صنعوا نهضة اقتصادات أوروبا والعالم الجديد في الأميركيتين بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، مع بداية تشكل الملامح الأولى للاقتصاد المعولم. لا تزال سواحل غينيا والسنغال غرب أفريقيا شواهد حية عن القرون المظلمة من الاستنزاف والاسترقاق ولكن لا أحد يريد الحديث عن ذلك في الشمال وآثاره التي ترتبت عنه حتى اليوم. ديون كبيرة لم يتم استخلاصها حتى اليوم تجاه القارة التي مثلت منجما للأوروبيين على مدى قرون من الاستنزاف والنهب للموارد عبر حملات التبشير المغلفة والرصاص ومن ثم الاستعمار المباشر. ولا يبدو بعد تلك القرون المظلمة أن أوروبا قد استخلصت الدروس. فغياب الثروات وانعدام النموّ سيظلان يدفعان بشكل دائم الجوعى واليائسين في القارة إلى المخاطرة بحياتهم في البحر. وبدل إدارة الظهر للضحايا يتعين على الأوروبيين بكل بساطة استخلاص ديونهم القديمة. لطالما شكلت هذه الديون التاريخية معضلة أخلاقية في طريق الحوار الأوروبي الأفريقي تعمقت بوضوح خلال فترة رئاسة العقيد الليبي الراحل معمر القذافي للاتحاد الأفريقي. مع ذلك لا يبدو أن قادة أفريقيا يميلون إلى استخدام هذا السجل كأداة ابتزاز اليوم لكن يفترض أن تبدي أوروبا وأميركا التزاما أخلاقيا أكبر في تصحيح أخطاء الماضي والاعتذار عن ذلك. حتى الآن لا مؤشرات عن إحداث اختراق متوقع في هذا الملف، لكن في كل الحالات ستكون ألمانيا دون غيرها في قمة هامبورغ ملزمة أكثر من ذي قلب على لعب دور متقدم في ضمان التزامات الشمال ودول مجموعة العشرين من أجل تحفيز النمو الاقتصادي في أفريقيا وخلق فرص عمل والمساعدة في تعافي دول جنوب المتوسط بعد ثورات الربيع العربي. وتزداد تلك الالتزامات أكثر جدية في حماية الديمقراطية الناشئة بتونس، النموذج الأكثر نجاحا في المنطقة. كاتب صحافي تونسيطارق القيزاني
مشاركة :