94 ألفا من الكفاءات والكوادر بعدة اختصاصات غادروا تونس منذ 2011، من بينهم باحثون وأطباء وجامعيون ومعلمون ومهندسون ورجال أعمال.العرب طارق القيزاني [نُشر في 2017/11/18، العدد: 10816، ص(7)] تحدث خبراء الأمم المتحدة ووسائل الإعلام الدولية كثيرا عن عدد التونسيين الذين غادروا البلاد للقتال في صفوف التنظيمات المتشددة في الخارج، لكن لا أحد منهم تحدث عن أعداد المهاجرين من الأدمغة والكوادر التونسية بمستويات أصبحت تنذر بالقلق والخطر على الأمن القومي. وكانت الأرقام المرتبطة بالمقاتلين كبيرة لدرجة أفزعت العالم عن غزو “داعشي” تونسي محتمل للشرق الأوسط وأوروبا، لكن مع مرور الوقت ثبت أن الأمر يتعلق بفرقعة إعلامية موجهة ومتجاهلة تماما أنشطة شبكات التجنيد والتسفير العابرة للدول ومصادر تمويلها الحقيقية. الإحصائيات الرسمية التي أعلنت عنها الحكومة التونسية هذا العام، استنادا إلى معلومات أمنية واستخباراتية، تفيد بأن عدد التونسيين في جبهات القتال في الخارج يناهز ثلاثة آلاف عنصر، قتل من بينهم الكثير بينما يقبع عدد هام منهم في السجون وتجري ملاحقة العائدين قضائيا فيما يخضع أكثر من 100 عنصر إلى الإقامة الجبرية. وربما نجحت الحكومة في تحييد جزء كبير من خطر العائدين من المقاتلين على أمن البلاد، لكن ليس بنفس القدرة التي تؤهلها لاستقطاب الجامعيين والكوادر الذين بدأوا يغادرون تونس بأعداد مخيفة لدرجة قد تهدد الأمن القومي على المدى المتوسط. ويمكن تحسّس حجم الخطر بمجرد تقدير عدد المهاجرين فعلا منذ 2011 والذي يقدر بأكثر من 90 ألفا، وهو رقم لا يقارن في كل الأحوال بأولئك الذين خيروا التوجه إلى جبهات القتال. وعلى عكس ما تسعى التقارير الدولية إلى تسويقه، ربما نكاية في الانتقال السياسي التونسي بعد الإطاحة بحكم الحزب الواحد في 2011، فإن تونس لطالما كانت متخصصة في صناعة رأس المال البشري بحكم شح مواردها الطبيعية ولم تعرف في المقابل وعبر التاريخ، كأرض للتكفير والصراعات الدينية والمذهبية. لكن مع ذلك فإن تونس تواجه خطر ضياع تخصصها هباء بعد أن أنققت المليارات من الدولارات في سبيل تكوين كوادرها، والسبب أنها لم تنجح لاحقا في توفير سوق عمل تتناسب مع أعداد الخريجين الجامعيين واختصاصاتهم، كما فشلت كذلك في توفير حوافز مالية ومهنية تستجيب لطموحات الآلاف من الذين التحقوا بالقطاع العمومي لخدمة الدولة والمواطنين، أو ردع صيغ التشغيل الهش في القطاع الخاص. وبالعودة إلى أرقام منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية في تونس فقد غادر نحو 94 ألفا من الكفاءات والكوادر في عدة اختصاصات البلاد منذ 2011، من بينهم باحثون وأطباء وجامعيون ومعلمون ومهندسون ورجال أعمال، 84 بالمئة منهم اختاروا التوجه إلى أوروبا، الشريك الاقتصادي والتجاري الأول لتونس. تجعل هذه الأعداد من تونس ثاني بلد مصدر للأدمغة والكوادر في المنطقة العربية خلف سوريا، مع أنها ليست بلدا يعاني من حرب كتلك التي تضرب سوريا أو ليبيا المجاورة، ولكن تونس في المقابل لم تنجح في تقديم مؤشرات واعدة للمستقبل أو آفاقا مطمئنة ومحفزة على الرغم من الإشادة الدولية بانتقالها الديمقراطي. مثلا ترتفع البطالة في تونس إلى أكثر 15 بالمئة على المستوى الوطني لتلامس حوالي 650 ألف عاطل ثلثهم من حاملي الشهادات العليا. وهذه النسبة تخفي تفاوتا حادا بين الجهات الداخلية المحرومة والمدن الكبرى في الشمال وتلك المطلة على الساحل. ففي الجنوب يمكن أن تصل البطالة إلى أكثر من أربعين بالمئة، ما يفسر تواتر القلاقل الاجتماعية في تلك المناطق. أما الفقر فإن الإحصائيات الرسمية تقول إنه عرف تراجعا بعد 2011 إلى 15 بالمئة وهذه النسبة أيضا تخفي واقعا مريرا، إذ يرتفع الفقر إلى الضعف في القيروان المصنفة كأكثر المدن التونسية فقرا على الرغم من عراقتها التاريخية والدينية، كعاصمة أولى للمغرب الإسلامي قبل فتح الأندلس في العصور الوسطى. الصورة قد تبدو أكثر قتامة إذا ما أضيفت إلى أعداد المهاجرين بشكل نظامي، أعداد الشبان العاطلين الذين غادروا تونس في رحلات سرية عبر البحر الأبيض المتوسط منذ 2011، حيث يناهز عددهم بحسب إحصائيات رسمية قدمتها الرئاسة نحو 40 ألفا. وعموما خسرت تونس قرابة 150 ألفا من كفاءاتها العليا وطاقاتها المدربة والمكونة منذ 2011 علاوة على انقطاع أكثر من 100 ألف سنويا عن الدراسة مبكرا، ما يشكل عبئا مضاعفا على الدولة والمالية العمومية. ويمكن توقع الأسوأ على المدى المنظور، إذا ما استمر الشريك الأوروبي في تركيز جهوده جنوب المتوسط فقط على تدريب خفر السواحل لمنع تدفق الهجرة إلى سواحله، بدل الانطلاق في وضع “مخطط مارشال” حقيقي للديمقراطية الناشئة طالما تحدث عنه ولكنه ظل حتى الآن مجرد دعاية إعلامية. كاتب تونسيطارق القيزاني
مشاركة :