نشرت صحف القاهرة خبر الحكم بإعدام عزيز المصرى فى إبريل 1914، فيما تواصلت مقالات وخطب التضامن معه والتأكيد على أن جميع التهم سياسية وفيها مكيدة واضحة من منافسيه فى الأستانة. لم تمنع هذه الأجواء من اهتمام صحف القاهرة وخاصة «الأهرام» بالربيع وشم النسيم. كان جورج أبيض وفرقته يعلنون عن ست روايات عالمية مترجمة على «الأوبرا الخديوية» وكان ثمن التذكرة الواحدة يتراوح ما بين 125 قرشًا فى البنوار وعشرة قروش فى الصفوف الأولى. وكانت شركة ترمواى مصر تعلن عن رحلات كل 15 دقيقة ما بين الأهرام وروض الفرج وشبرا والجزيرة، فيما كانت شركة الهليوبوليس، «ونظراً للازدحام، تعلن عن قطارات إضافية بين محطة كبرى الليمون وأوتيل بلاس واللونا بارك وذلك من الساعة 4 وثلاثة أرباع الساعة بعد ظهر يوم الإثنين». وفى نفس المنطقة وسط العاصمة حيث حديقة الأزبكية كانت حملات التضامن والمظاهرات الملتهبة بالخطب الحماسية الرنانة الداعمة لـ«عزيز» والمهاجمة لأعدائه الأتراك مستمرة. كانت البرقيات تصل متأخرة أحيانًا فاختلط خبر الحكم بإعدامه مع خبر آخر بتخفيف الحكم إلى المؤبد، لكن بشرى العفو عنه والسماح بسفره إلى مصر جاءت واضحة فى برقية نشرت فى 13 إبريل 1914 فى صدر صحيفة الأهرام. وفى إسطنبول وعلى أرض الأحداث، مضت الأحداث بشكل مختلف. تكشفت حيل «الاتحاديون» باغتيال عزيز المصرى فى سجنه والادعاء بأنه انتحر. والذين توصلوا لهذا القرار بعد أن انتهت المحاكمة ورأوا هياج العرب لم يخمد، بل كان يزداد شدة وضراوة، فبلغ زعماء الحركة العربية من قبل أحد المصادر الاتحادية فى الأستانة فاجتمعوا وتداولوا الأمر، وتدخل دبلوماسيون غربيون ومنعوا الاتحاديين من اقتراف جريمتهم الكبرى. ويقول عبدالكريم جرادات فى رسالته للماجستير عن عزيز المصرى «عندما تم السماح لعزيز المصرى باستقبال الزوار وامتلأت زنزانته بالعديد من الأصدقاء، وهكذا فى أحد الأيام عندما زاره أحد الأصدقاء، استطاع المصرى تمرير ورقة مكتوب عليها ما يلى: لقد زارنى اليوم عضو كبير فى جمعية الاتحاد والترقى وكشف لى أنه سيكون هناك محاولة لاغتيالى، وأعطانى مسدسًا لحماية نفسى. إن صحت هذه الرواية، فإن الهدف كان اغتيال «عزيز» فى السجن واتهامه بقتل نفسه بالانتحار بدليل وجود مسدس معه، وربما اتهامه بمحاولة الفرار من السجن وتبادل إطلاق النار مع الحرس. مع تواصل الضغوط الدبلوماسية- التى كان أهمها التدخل البريطانى، أطلعت السلطات فى إسطنبول السفير البريطانى فى الرابع عشر من إبريل أنه تم اتخاذ قرار بتخفيف عقوبة الإعدام بحق «المصرى» إلى خمسة عشر عامًا مع الأشغال الشاقة، مع التلميح إلى أنه بالإمكان تخفيف العقوبة إلى أقل من ذلك. وفى السابع عشر من نفس الشهر، وصل الأستانة، الدكتور سعد الخادم بك حاملاً رسالة تبين حقيقة العلاقة بين أنور باشا- وزير الحربية حينئذ- وعزيز المصرى والسيد السنوسى، مفادها أن «أنور» كان يريد افتعال مشكلة بين السنوسى وعزيز المصرى، وبأن السنوسى لم يتلق أى شىء من أنور، وأضاف أن هذه الرسالة سوف يقدمها الدكتور الخادم للسلطات الحكومية، وأنه سوف ينشر نص الرسالة إذا لم يطلق سراح عزيز المصرى. يذكر «جرادات» أن مراسل جريدة «التايمز» فى الأستانة قام بنشر عدد من المقالات لصالح المصر» مؤثراً فى الرأى العام. أما الصحفى الفرنسى جورج ريمون فقد قام بزيارة إلى جمال باشا محاولاً إقناعه بسخافة الادعاءات الموجهة ضد «المصرى» وإعلامه بالأمر المدمر الذى قد يسببه مثل هذا الحكم فى توجهات الوطن العربى للإمبراطورية العثمانية، برميل برقيات الاحتجاج التى كانت تصل إلى الأستانة. ويذكرها جمال باشا وكان من قادة «الاتحاد والترقى» فى مذكراته، كما يقول «جرادات» إن الرأى العام أصبح أشد سخطًا على أنور من عزيز المصرى نفسه، فقام بإرسال الكتاب الآتى إلى أنور حيث قال: عزيزى أنور بالرغم من كل البيانات العديدة التى جمعتها المحكمة العسكرية ضد عزيز بك وبالرغم من الحكم صدر عليه فعلاً «فإن الرأى العام غير ساخط إلا عليك، فالسخط عليك بهذه الطريقة يحدث لك ضررا أكثر بكثير من الضرر الذى يلحق بعزيز بك من جراء سجنه بضع سنين، فأرجو أن تبذل جهدك فى الحصول على العفو الشاهانى عنه، وأنا أبُعده عن الأستانة على ألا يعود إليها. وفى اليوم التالى، العشرين من إبريل 1914، قام أنور بإعلام جمال باشا أنه طلب وحصل على عفو كامل لعزيز المصرى من السلطان، حيث تم إطلاق سراحه فى 21 إبريل وأُحضر لمقابلة أنور باشا وطلب منه أن يغادر إلى مصر على الفور وألا يتدخل ثانية فى شؤون الدولة العثمانية التزامًا كان من الظاهر أن «المصرى» لم يكن أبداً قادراً أن يبرّ به. غادر المصرى فى اليوم التالى بحراً إلى الإسكندرية على ظهر سفينة رومانية ووصلها 26 إبريل، وتكتب الأهرام فى عددها الصادر يوم 24 إبريل، أن عزيز بك المصرى قد غادر إلى الإسكندرية على الباخرة الرومانية وهتف له عند سفره الشباب المصريون وغيرهم من أصدقائه. وتنقل الصحيفة فى نفس العدد نص برقية وجهها «المصرى» إلى جريدة التايمز قبل أن يبرح الأستانة يشكرها فيها على ما أبدته له من المساعدة والعضد الكريم الذى أيدته به، قائلاً إنه لا ينسى لها أبداً هذا الفضل. وتتوالى برقيات التهنئة على «الأهرام» وعلى محاكمة عزيز المصرى وخاصة صهره على ذو الفقار باشا محافظ القاهرة، لدرجة دفعت «الأهرام» للإعلان عن اعتذارها عن نشر كل هذه الرسائل. أما يوم وصوله فكان بمثابة عيد قومى فى العاصمة وفى الإسكندرية حيث وصلت الباخرة الرومانية التى كانت تقله. أعربت محافظة القاهرة من خلال لجنة خاصة شكلتها لمقابلته فى الإسكندرية ومحطة القاهرة عن أملها أن يتم بهدوء وبعيداً عن التظاهرات. غادر وفد المقابلة إلى الإسكندرية فى قطار خاص. نزل عزيز بك المصرى وسعد بك الخادم رفيقه الذى دافع عنه فى الأستانة أحسن الدفاع- فقابلهما على الرصيف سعادة محافظ القاهرة وأنجاله والوفد الذى سافر من القاهرة وجمهور عظيم من القاهرة وجميع مراسلى الصحف الأوروبية والمصرية وكان مصورو السينماغراف قد أعدوا عدتهم لأخذ صور الموكب، وصفق الحاضرون تصفيقًا متواصلاً لعزيز بك عند نزوله، وعلت الأصوات بالهتاف، وكانت محافظة الإسكندرية قد صفت بلوكًا من العساكر من الرصيف حتى القطار. فسار عزيز بك بين صفين من الجند وبين التصفيق والهتاف وصعد إلى قطاره بعض مراسلى الصحف الأوروبية لالتقاط أقواله وأحاديثه، ثم صار القطار الخاص إلى القاهرة فوصلها فى الساعة الواحدة والنصف. وكان على الرصيف لاستقباله جمهور غفير من الوجوه والأعيان والأدباء والشيوخ وشلة من رجال البوليس لضبط النظام ومديرى الضبط، فلما وقف القطار ارتفع التصفيق والهتاف، ونثرت طاقات الأزاهير، وأسرع عبدالعزيز بك بالنزول إلى عربة شقيقته وركب وحده إلى منزلها فى الناصرية ثم أخذ الحاضرون يهتفون للدكتور سعد بك الخادم وركبوا قطاراً من العربات والأوتومبيلات وبأيديهم طاقات الأزهار إلى منزل سعادة ذو الفقار باشا. وكانت طائفة من النساء تزغرد فى الطريق على جانبى الموكب وعند منزل سعادة المحافظ. والمهم فى هذه التغطية الصحفية المتميزة، مقال قصير بدون توقيع فى «الأهرام» جاء فيه أن «العفو دليل على أن الرأى العام على الحكومة الدستورية تأثيراً وفعلاً كبيراً خلافًا للحكم المطلق المستبد». لم يهدأ «أبوالثوار العرب» لوقت طويل، فما هى إلا شهور معدودة، إلا وكانت تركيا قد تحالفت مع ألمانيا، وأعلنتا معًا الحرب على روسيا وإنجلترا وفرنسا فى أكتوبر 1914. وبدخول تركيا الحرب أصبحت الحركة العربية فى مرحلة امتحان دقيق. أتقف مع دولة الخلافة الإسلامية فى محنتها أم تنفصل عنها وتعاديها؟ كان الرأى السائد لدى رجال الحركة الإصلاحية العرب الوقوف مع تركيا وتناسى الخلافات معها لحين انتهاء الحرب. كان موقف عزيز المصرى- القائد السابق فى الجيش التركى- دقيقًا. فأصدقاؤه وعشيرته حكموا بإعدامه، وتوسطت بريطانيا- دولة الاحتلال- للإفراج عنه. هذه الإشكالية ما بين «الثورة العربية الكبرى» والولاء القديم للدولة العثمانية والتجاذب مع الإنجليز سيحدد فصولاً مهمة قادمة فى حياة عزيز المصرى.
مشاركة :