الدول الغنية والدول الفقيرة (1)

  • 7/17/2017
  • 00:00
  • 21
  • 0
  • 0
news-picture

اعتذر لك مقدماً أيها القارئ الكريم عن اختياري لهذا الموضوع لأكتب فيه، فقد يبدو لك أنه يحتاج إلى تركيز خاص لا يتناسب مع ما ينشر في الصحف السيارة التي اعتاد القارئ عليها، ففيها تأتيه المعلومة جاهزة مُقشّرة على طبق من فضة ليتناولها في سهولة ويسر من دون عناء أو جهد.. ولكن هذه المعلومة، وإن كانت ستحتاج منك إلى قدر قليل من التفكير، شأنها في ذلك شأن سائر الموضوعات الاقتصادية، فإنني سأحاول بقدر المستطاع أن أضعها في أبسط صورة حتى لا يضيق بها القارئ، فضلاً عن أن أهمية الموضوع قد تهون عليه بعضاً من مشقته، فهي محاولة مستميتة للإجابة على سؤال عويص هو ذات السؤال الأزلي الذي طرحه آدم سميث عالم الاقتصاد الأسكتلندي مؤسس علم الاقتصاد الكلاسيكي، حيث قدم للمكتبة أهم كتابين في الاقتصاد، هما نظرية الشعور الأخلاقي (١٧٥٩)، وكتاب بحث في طبيعة ثروة الأمم (١٧٧٦) الذي اشتهر اختصاراً باسم «ثروة  الأمم»، وفي هذا الكتاب الأخير طرح السؤال المهم: «لماذا توجد دول غنية وأخرى فقيرة؟»، وهو السؤال ذاته الذي ما زال مطروحاً ليومنا هذا،  حيث يحاول الاقتصاديون المحدثون الإجابة عليه وعلى رأسهم دارون أسيموغلو الأستاذ بمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا الذي أصبح من ألمع الأسماء في مجاله، والذي اكتسب شهرته من إسهاماته الكبيرة في محاولة الإجابة على هذا السؤال الشهير الذي نتناوله اليوم والذي ظل مطروحاً منذ منتصف القرن السادس عشر، ولا يزال مطروحاً إلى يومنا هذا، كما سيظل مطروحاً إلى ما شاء الله، لأننا حين نصل إلى إجابته الدقيقة والقابلة للتطبيق، فسيصبح في إمكاننا القضاء على فقر الدول الفقيرة لتلحق بركب الدول الغنية، وهو ما سنحاول الكشف عنه في هذا المقال،   وقبل أن نجيب على السؤال لا بد أن نعرف ماذا يعني اصطلاح الدول الغنية والدول الفقيرة.. في البداية كان  الاقتصاديون يقيسون اقتصاد الدول من حيث الغنى أو الفقر بإجمالي الناتج المحلي في كل دولة.. أي بإجمالي ما تم إنتاجه في الدولة من سلع وخدمات خلال عام واحد، ولكنهم وجدوا أن هذا المعيار خاطئ ومضلل، فقد لاحظوا أن الناتج المحلي في الهند مثلاً أكبر ست مرات من الناتج المحلي لسنغافورة، ومع ذلك فإن سنغافورة هي الأغنى، وبالبحث تبين لهم أن السبب وراء هذه النتيجة المضللة يكمن في  تعداد السكان، فتعداد السكان في الهند أكبر ٢٤٠ مرة من تعداد السكان في سنغافورة، لهذا عدل الاقتصاديون عن هذا المعيار فأصبحوا لا يعتمدون في المقارنة بين الدول من حيث الثراء أو الفقر على الناتج المحلي للدولة، وإنما على ما يسمى بإجمالي الناتج المحلي للفرد، أي إجمالي الناتج المحلي للدولة مقسوماً على عدد السكان، وقد كشفت إحصاءات منظمة الأمم المتحدة أن الدول التي تحتل المراكز الأولى في مؤشرات التعليم والثقافة ومستوى المعيشة والرعاية الصحية هي التي يكون إجمالي الناتج المحلي للفرد فيها هو الأعلى، ومن هنا بدأ البحث: لماذا هناك دول غنية ودوّل فقيرة؟ أبسط الإجابات وأكثرها سذاجة هي التي تعزو فقر الدول أو غناها إلى سوء الحظ، وهو ما عبر عنه أحد كبار الكتاب بأنه «ثروة بالصدفة»، فيعتقد البعض أن عدم امتلاك الدول الفقيرة للموارد الطبيعية هو سبب فقرها، ولكن الواقع كذب هذا الظن، فلو أخذنا المثال من ذات الدولة وهي سنغافورة لتبين لنا أنها هي الثالثة على مستوى العالم من حيث الثراء، أي من حيث إجمالي الناتج المحلي للفرد على الرغم من أنها لا تمتلك أي موارد طبيعية، ولو أخذنا مثالاً من دولة أخرى هي السويد التي تعد الدولة التاسعة على العالم من حيث الناتج المحلي للفرد،  لتبين لنا أنها أيضاً لا تمتلك أي موارد طبيعية، بينما دولة مثل زيمبابوي عندها وفرة في الموارد الطبيعية من الفحم والمعادن النادرة علاوة على التربة الخصبة، ومع ذلك فإن ترتيبها هو الـ١٦١ على  مستوى العالم من حيث إجمالي الناتج المحلي للفرد! كما أن إجمالي الناتج المحلي للفرد في أميركا أكبر ١٨ مرة من إجمالي الناتج الفردي في بنغلادش وأكبر ٨ مرات من إجمالي الناتج المحلي الذي كان يحققه الفرد في أميركا ذاتها منذ مئة عام، ومعنى هذا أن العمال في أميركا اليوم يكسبون ٨ أضعاف ما كان يكسبه أسلافهم منذ مئة عام! أي أنهم ينتجون ٨ أضعاف ما كان ينتجه أسلافهم منذ مئة عام وليس إنتاجهم فقط هو الذي زاد وإنما جودة الإنتاج أيضاً ارتفعت، ومن هنا اكتشفوا أن الإنتاجية هي السبب الأساسي لثراء الدول الغنية وفقر الدول الفقيرة. وللحديث بقية.. المستشار عادل بطرس a.botrosfarag@gmail.com

مشاركة :