اذا أردنا ان نتعرف على الدول الغنية في العالم، بحسب المفهوم الذي حددناه في الجزء السابق من هذا المقال، اي الدول التي تحقق اعلى معدل لإجمالي الناتج المحلي للفرد، فان اول ما يتبادر الى الذهن الدول الكبيرة او المشهورة مثل الولايات المتحدة او ألمانيا او سنغافورة، ولكن ليس هذا هو الواقع، فهناك دول لا نكاد نسمع عنها تحقق اعلى ناتج محلي للفرد منها جمهورية موريشيوس مثلاً، وهي جزر صغيرة في وسط المحيط الهندي اكتشفها الرحالة البرتغالي دون بيدرو في عام ١٥٠٥، وفي عام ١٦٣٨ اقامت هولندا أول مستعمرة على الجزيرة، وادخلت فيها زراعة قصب السكر، والحيوانات الأليفة، والغزلان الى ان رحلت عنها في 1710، وجاء من بعدها الفرنسيون في سنة 1715 وأسسوا ميناء بورت لويس التي هي عاصمة البلاد الآن، وظلت جزيرة موريشيوس قاعدة لهم حتى هزيمة نابليون، فاستولت عليها بريطانيا في سنة 1810، وقامت ببعض التغييرات الاجتماعية والاقتصادية في الجزيرة، وظلت موريشيوس مستعمرة بريطانية الى ان تم إجراء انتخابات عامة في 1967، قامت على اثرها بإصدار دستور جديد للبلاد، واعلنت استقلالها عن بريطانيا في 12 مارس 1968، ثم تم بعد ذلك الإعلان عن جمهورية موريشيوس في 12 مارس 1992.. وحتى عشية الاستقلال عام 1968، كان الاقتصاد في موريشيوس معتمداً على إنتاج وتصدير السكر فقط. أما في سبعينات القرن الماضي، فقد بدأت الجزيرة في تنويع اقتصادها عبر التشجيع على إقامة شركات تعتمد على التصدير ضمن منطقة تجهيز الصادرات وتطوير اقتصادها السياحي. وفي أوائل الثمانينات، قامت الحكومة بإطلاق برنامج مكثف موجه نحو تنمية التطوير الاقتصادي من خلال التصدير، والتنويع الزراعي وتوسيع سوق السياحة. وكنتيجة لهذا البرنامج، اصبح قطاع التصنيع هو الذي يقود النمو الاقتصادي في موريشيوس خلال الثمانينات حيث أصبحت منطقة تجهيز الصادرات اكبر جاذب للاستثمارات الأجنبية وأكبر محفز للمشروعات الفردية. وفي التسعينات أصبحت منطقة تجهيز الصادرات معتمدة بشكل كبير على صناعة المنسوجات والألبسة. كما شهدت التسعينات تنوعاً كبيراً فدخلت موريشيوس إلى قطاعات جديدة متطورة مثل تقنية المعلومات، والهندسة وتصميم المجوهرات. كما تطورت قطاعات الموانئ والخطوط البحرية مع توقع ان يلعب قطاع الخدمات دوراً أساسياً في نمو الاقتصاد في المستقبل. ومنذ بداية الألفية الجديدة اي في الفترة بين 2000 و2005، استحدثت قطاعات جديدة للنمو الاقتصادي، وبالأخص الاستعانة بمصادر خارجية للأعمال، منها معالجة المأكولات البحرية، والتسوق المعفي من الضرائب ومخططات المنتجعات المتكاملة التي سمحت للأجانب لأول مرة بالتملك في موريشيوس، وبمساعدة الحكومة الهندية تم تأسيس مدينة إيبين الرقمية بهدف جذب استثمارات أجنبية وخلق وظائف جديدة، بالاضافة الى الاستعانة بمصادر خارجية للأعمال. كما تم إطلاق حملة تحويل موريشيوس إلى جنة للتسوق المعفي من الضرائب بنفس الوقت. ومنذ 2005، أصبح من السهل الوصول إلى موريشيوس عبر الجو، وهو ما نشط حركة السياحة وجعلها من أهم عوامل النمو الاقتصادي. كما تم تبني تدابير إضافية لتحرير الاقتصاد وجذب الاستثمارات الأجنبية من جميع أنحاء العالم، ودعوة الأجانب للعمل والعيش في موريشيوس. كما أن هناك عدداً من مشاريع مخططات المنتجعات المتكاملة تحت التطوير، ومن شأنها إصلاح الاقتصاد، واليوم يقع اقتصاد موريشيوس بين طبقتي الدخل المتوسط والعالي، حيث بلغ معدل النمو السنوي خلال الأعوام الخمسة الماضية %5، فضلاً عن تبني تدابير إضافية لتحرير الاقتصاد وفتحه أمام العالم، كما شددت الحكومة على متابعة قضايا حقوق الإنسان في أفريقيا وعدم تجاهلها. بالاضافة الى ان الحفاظ على البيئة اصبح من أهم اولويات الحكومة حيث عملت جاهدة على الحفاظ على الجمال الطبيعي للجزيرة، على الرغم من تسارع معدل النمو الاقتصادي خلال العقد الماضي، وهكذا أعطت دولة أفريقية صغيرة النموذج والمثال الذي يجب ان يُحتذي. وللحديث بقية.. المستشار عادل بطرس a.botrosfarag@gmail.com
مشاركة :