مهرجان آرت ستريت الباريسي: أيها الفنانون زوقوا ولا تخربوابعد نجاح عملية “إعادة التهيئة 1” الصيفَ الماضي، دعت جمعية “بيتوم ستريت آرت” المتخصصة في الفن المديني ما يقارب مئة فنان من فناني الشارع لتزويق مبنيين في باريس هما دار الفنون والصنائع، والحي العالمي الجامعي، قبل أعمال الترميم والصيانة المزمع إنجازها قريبا، فكان مهرجانا بهيجا طافحا برسوم وخطوط غرافيتي بديعة أطلق عليه “إعادة التهيئة 2”.العرب أبو بكر العيادي [نُشر في 2017/08/21، العدد: 10729، ص(16)]فن في طريقه إلى الاعتراف به رفع مهرجان الستريت آرت الباريسي في دورتيه الأولى والثانية شعار “رِئاب”، وهي اختزال لعبارة réhabilitation الفرنسية التي تعني إعادة تهيئة. وكسائر تظاهرات فنون الستريت آرت، هو حدث عارض، أشبه بسحابة صيف سرعان ما تزول، فاللوحات والملصقات والموضوعات التي تفنن الرسامون في إبداعها بأشكال وأحجام مختلفة شملت الجدران والمدارج وحتى أرضية الممرات منذورةٌ للزوال، حالما تنطلق أعمال الترميم والصيانة المزمع إنجازها قريبا على مبنيي دار الفنون والصنائع والحي العالمي الجامعي بباريس، فالغاية ليست الديمومة بقدر ما هي احتفاء بالعمل الفني بكيفية مشتركة لتزويق فضاء ما. وهو هنا مفتوح لمختلف الأجيال والمشارب، من باريس وليون ومرسيليا ونانت وسواها من المدن الفرنسية، حيث يتراوح سن الفنانين المساهمين من سبع عشرة سنة إلى سبع وسبعين، منهم المعروف أمثال جو دي بونا، وجواكيم رومان، ودودو ستيل، ودانتي، وجونغل، وشارل إيلي كوتير، وكيسادي المنسق العام للمهرجان، ومنهم من لم يحظ بعد بالانتشار الواسع رغم جدية عمله، كأسترو، وبيبار، وكراب، وجانجيروم، وباسطو، وطارق، ومويوشي، وكولوف وغيرهم الكثير. والمهرجان مفتوح أيضا لأنشطة متنوعة، كاشتراك عدة فنانين في إنجاز جداريات بحضور الجمهور، وتوفير ورشة لصيانة لوحات ألوان الرسامين ومصاقلهم، إلى جانب مسابقة في لعبة الكرة الحديدية وارتجالات موسيقية. وعند اختتام المهرجان لن يحتفظ المشاركون سوى بالأبواب التي ستباع في المزاد العلني لفائدة إحدى الجمعيات الخيرية، أما الباقي فسيكون عرضة للتدمير. وبعكس الأعمال الفنية التي تنجز في الهواء الطلق، حيث الوقت محسوب، والمناخ له دور أساس، استطاع الفنانون هنا أن يعملوا طيلة ثلاثة أسابيع، بعيدا عن ضوضاء الشارع وطوارئه البشرية والمناخية، بخلاف الدورة الأولى التي لم تستغرق سوى ثلاثة أيام.عند اختتام المهرجان لن يحتفظ المشاركون سوى بالأبواب التي ستباع في المزاد العلني لفائدة إحدى الجمعيات الخيرية والغاية دائما هي إعطاء الأولوية للثقافة المضادة، وإضفاء مسحة من الحداثة على فنون الشارع، وإخراج بعض الفنانين المغمورين من محليتهم الضيقة، ذلك أن هذه الفنون ظلت حتى وقت قريب تقتصر على خطوط الغرافيتي المرسومة ليلا، ودون ترخيص، على جدران أرصفة محطات الأرتال، والمباني المهجورة، والمستودعات المتداعية، وحتى أنفاق المترو، ومآوي السيارات. وكانت أشبه بالأعمال الصبيانية التي تشوه المباني، فيعاقَب المتلبّس وتمحى الرسوم لتعود الجدران إلى سابق طلائها، قبل أن يتم الإقرار بأحقية هواتها في ممارسة فنهم في أماكن معلومة يقع الاتفاق عليها عادة مع السلطات البلدية. وفي تلك الفترة، كان الستريت آرت قائما على الخطوط الحروفية، ما حدّ من تواصله مع الجمهور، الذي لا يفهم الغاية من وراء خربشات تشوه وجه المدينة ومؤسساتها. ثم تطور الأمر، فصار الستريت آرت يعدد أشكاله ويمزج فيها بين الغرافيتي والرسم الزيتي، ما دفع المتلقي إلى التساؤل عن هذه الفنون وأنماطها وغاياتها، وبدأ شيئا فشيئا يكتشف روّادَها وتميّزَ بعضِهم عن بعض من حيث أسلوبه وأدواته، بل إن بعض المتاحف كمركز بومبيدو ومتحف الفن المعاصر وسواهما صارت تهتم هي أيضا بتلك الفنون وتقيم لها المعارض. وفي هذا المهرجان، يكتشف الزائر، منذ دخوله مبنى دار الفنون والصنائع ذا الطوابق الستة، أو معمار الحي العالمي الجامعي ذا الطوابق الخمسة، حشدا من الصور والألوان، ولفيفا من الفنانين يضعون اللمسات الأخيرة لجدارية، أو يشرحون مقاربتهم الفنية والأسلوب المتبع لتجسيدها على الواقع، أو يجيبون على أسئلة من لا يرى جدوى من وراء هذه الجهود الكبرى ما دامت الأعمال كلها تقريبا منذورة للزوال، حتى لكأنها قصور رمل على الشاطئ، تهدمها الريح عند أول هبة. وبعض الفضاءات عُهد بتأثيثها لفنان واحد حتى يبدو المشهد متّسقا من حيث الأسلوب، فيما عُهدت فضاءات أخرى لعدة فنانين من هواة الغرافيتي. هنا سعلاة ضخمة مصنوعة من ألياف خيش المسح، وهناك أجساد نسائية مقولبة، وفي أحد الممرات جذع إنسان على الحائط ورجلاه ممدودتان على الأرضية، وفي ممر آخر صورة تكاد تكون مجسدة لقاطرة قديمة واقفة على سكك يغطيها الصدأ والحشائش، وفي أحد الطوابق جدار تتوسّطه نافذة يطل منها شخص على الشارع. الطريف أن الدخول مجاني، لأن المشاركين يحرصون على أن يكون الفن في متناول كل الناس، وليس حكرا على فئة مخصوصة، ولكنهم يقبلون أن يدفع الزوار ما يشاؤون عند الخروج، لتشجيع الفنانين على إعداد دورة ثالثة خلال الصيف القادم.
مشاركة :