في كتاب (يوميات نائب في الأرياف) لتوفيق الحكيم، وفي أحد أجزاء الرواية يجري حوار بين القاضي والمتهم الذي يحاكم بتهمة سرقة كوز ذرة من أحد الغيطان، يقر المتهم وبحرقة أنه سحب الكوز وأكله بسبب جوعه، وعندما قال له المحقق ان ما فعله يعد سرقة في نظر القانون، رد الفلاح: "القانون يا جناب البيك على عيننا وراسنا. لكن برده القانون عنده نظر ويعرف إني لحم ودم ومطلوب لي أكل"!! جواب الفلاح مؤثر جدا لأنه يعبر ببساطة وعفوية عن الإحساس بالظلم من قوانين توضع وتطبق دون أن تأخذ بالاعتبار واقع الناس وإنسانيتهم. إذا كان القانون يهدف إلى تنظيم حياة البشر وحماية مصالحهم، فلا بد أن يكون متلائما مع ظروفهم واحتياجاتهم، وبالتالي فإن أي قانون لا يحقق المنفعة ولا الهدف لا يعد قانونا. هناك كثير من الأنظمة تحتاج إلى تغيير وتعديل عاجل ومع ذلك تمر السنوات والعقود، تتراكم فيها المشكلات وتتعقد الأمور ولا يحدث تغيير، وقد شبه أحد الباحثين هذه الحالة "بالوثنية البيروقراطية حيث صناعة القوانين لخدمة الناس، ثم الارتداد لعبادتها دون مراعاة لمصلحة المواطنين". لنأخذ مثلا نظام التقاعد الذي عفى عليه الزمن، وبحت الحناجر وجفت الأقلام من الكلام والكتابة في نقده ومع ذلك لم يتغير شيء يذكر، وجل ما يفعله المسؤولون هو الدفاع عنه وإظهار محاسنه ومقارنته بدول أخرى دون دول، فالحد الأدنى للمعاش التقاعدي الذي قرر من سنين 1725 ريالا وهو راتب متدن لا يليق بدولة غنية كالمملكة كم أصبح يساوي الآن بعد احتساب نسبة التضخم في الأسعار؟ هل تبقى القيمة الشرائية للراتب بعد عشر سنوات كما كانت عند احتسابه؟ أحد الأحكام ينص على أنه عندما يصل الأبناء للسن القانوني يحسم المخصص لهم من راتب والدهم ويظل الراتب يتآكل تدريجيا مع السنوات، وأنا اسأل كيف سيعيش أبناؤه إذا كانوا لا يعملون ؟ ثم ماذا سيتبقى له وكيف سيعيش بدخله الضئيل في زمن الغلاء حتى لو استقلوا ماديا؟ ألم يضطر كثير من المتقاعدين للعمل في مهن بسيطة لسد احتياجاتهم اليومية؟ ألا ترى المؤسسة العامة للتقاعد أن مثل هذه الأنظمة تعيق تحقيق الهدف من إنشائها وهو توفير العيش الكريم للمتقاعد؟ يشعر كثير من المتقاعدين بضيق سبل الحياة أمامهم بعد التقاعد، تقول إحدى المتقاعدات بمرارة: "عزمت على شراء سلعة ودفعت العربون، وعندما لم يكن ما أملكه يكفي بعد أن دفعت جزءا من المبلغ تقدمت بطلب قرض آملة في الحصول عليه ولكني فوجئت برفض طلبي من عدة بنوك بما فيها البنك الذي أتعامل معه لا لشيء إلا لأني متقاعدة، والنتيجة أني خسرت الصفقة وخسرت العربون" وتضيف: "المتقاعد تقفل في وجهه الأبواب ويعامل على أنه خارج منظومة الحياة، فلا تأمين صحيا ولا قروض ولا سكن، وفي الوقت نفسه لا تسهيلات ولا إعفاءات ولا تخفيضات، فله الله".
مشاركة :