أنهيت الجزء الأول من مقالي بالحديث عن تجربة أجراها الأستاذان الأميركيان ميلر ويوري عام 1952 اثبتا فيها امكانية تحضير الأحماض الأمينية وهي اللبنة التي يبنى منها البروتين في المختبر.تمكنا من ذلك بتمرير تيار كهربائي في حاوية مغلقة تحتوي غازات الهيدروجين والميثان والأمونيا. وذكرت أن ذلك كان وقعه عليّ كبيراً عندما تحدّث عنه استاذ النبات في الجامعة الأميركية في بيروت عام 1972 وفي مدرج كبير يسع لأكثر من 300 طالب وطالبة. ليس علينا أن نقبل «ادعاء» ميلر ويوري. لكن هل تقترح يا مهندس مبارك أن تمنع الطلبة في الكويت من الاطلاع على هذه التجربة؟ هل درست أنت الهندسة في كلية الشريعة في الكويت أو في جامعة أميركية؟ هل رأيت البروتون والنيوترون والالكترون عندما تطلب منك دراسة الفيزياء؟ وهل تصدق أن المسافات داخل الذرة تقاس بجزء من البليون من المتر؟ الذي درّسك هندسة، لا بد أنه زامل أستاذا يدرس علم الأحياء. لماذا يصبح علم الهندسة «غير غريب» لديك وتريد أن تمنع الآخرين من دراسة علم الأحياء باعتباره فكراً غريباً؟ هل طور المهندسون الذين يعملون لديك الكمبيوتر والبرمجيات التي يستخدمونها في التصميم، أم كان مصدرها غريبا؟ انت تقول في مقالك «محاولة نشر الفكر الغريب، «نحن في الإسلام تعلّمنا في مناهج التربية في الكويت في الصف الثاني الابتدائي في سورة «التين» قوله سبحانه وتعالى: «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم»، ونشير إلى تفسير الآية الكريمة بما شرح ابن كثير «يمشي قائما منتصبا على رجليه ويأكل بيديه، وجعل له سمعا وبصرا وفؤادا». وأود أن أتساءل: هل نحتاج إلى ابن كثير لنعرف أن الإنسان يمشي قائما منتصبا على رجليه؟ هل المؤمن المسلم لا يعرف ذلك؟ وما علاقة ذلك بنظرية التطور؟ هل تريد من أبنائنا وبناتنا وأحفادنا أن تكون مرجعيتهم العلمية لما ورد في كتاب الدين للصف الثاني الابتدائي؟ ثم لو افترضنا أن شخصية ذكية ومؤمنة مثل ابن كثير كان معاصرا، فهل كان سيعتبر نظرية التطور «فكرا غريباً»؟دراسة نظرية التطور يجب أن تدرس بالتوازي مع دراسة الدين، ولكن ليس بطريقة أن تستخدم ضد العقائد الدينية، كما أن تدريس الدين يجب ألا يستخدم في ذم أو تفنيد نظرية التطور. فهناك دائما مخاطرة أن تقدم الأديان نظرية علمية قد تفنّد بالنهاية. ولعل أهم مثال على ذلك تبني الكنيسة الكاثوليكية لنظرية أن الأرض هي مركز الكون، والتي هي كانت أصلا فكرة يونانية. فالكنيسة حاربت كوبرنيكس البولندي وجاليليو الإيطالي اللذين أثبتا علميا أن الشمس هي مركز المجموعة الشمسية وليس الأرض. لقد كان الدرس قاسيا على الكنيسة، لكنها استفادت من التجربة وامتنعت عن مجادلة العلماء في مواضيع العلوم الطبيعية. فللعلوم الطبيعية مجالها، وللعقائد مجالها الآخر. ويمكن أن يتعايشا بوئام ومحبة من دون أن يتحدى طرف الآخر. هذا ولم أعرف إن كان الأزهر أو النجف قد تبنيا نظرية علمية في وقت ما. لكن المرحوم الشيخ ابن باز كان قد نشر منشورا في فترة من حياته فنّد فيه كروية الأرض ثم تراجع عنه. ولنا في الرسول (ص) قدوة في فصل الديني عن الدنيوي أو في فصل العلم عن الاعتقادات في حديثه عن تلقيح النخل. والحديث أخرجه مسلم وغيره من طريق عائشة وأنس، لكني أذكر هنا رواية طلحة، وهي الأكثر قبولا من المرجعية السلفية:حَدَّثَنَا بَهْزٌ، وَعَفَّانُ، قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عَلَى قَوْمٍ فِي رُؤوسِ النَّخْلِ.فَقَالَ: «مَا يَصْنَعُ هَؤُلاءِ؟». قَالُوا: يُلَقِّحُونَهُ، يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الْأُنْثَى. قَالَ: «مَا أَظُنُّ ذَلِكَ يُغْنِي شَيْئًا». فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ. فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ: «إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ فَلْيَصْنَعُوهُ، فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنِ إذَا أَخْبَرْتُكُمْ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِشَيْءٍ فَخُذُوهُ، فَإِنِّي لَنِ أكْذِبَ عَلَى اللهِ شَيْئًا».[1](3/15 ـــــ 16) مؤسسة الرسالة ت.شعيب الأرنؤوط عادل مرشد وآخرون إشراف د.التركي.إن ايماننا عميق ان شاء الله يا مهندس مبارك، وفصل العلمي عن الديني يعطي الحرية بالبحث والتفكير، ويبعد الجدل ويخفف الضغط عن رجال الدين من مسؤولية، هم ربما غير مؤهلين لها، وهي شرح متغيّرات العلوم باستخدام الثوابت الدينية.د. حامد الحمود Hamed.alajlan@gmail.comhamedalajlan@
مشاركة :