إذا كان الناس يلوذون للتغلب على همومهم ومتاعبهم وآلامهم، بالأدعية، وبالأحجيات، والصبر، والانتظار، فإن للشعب الفلسطيني فوق كل ذلك طريقة أخرى مهمة بالإضافة إلى ما سبق. العودة إلى بعض صفحات التاريخ، وإظهار الوفاء للشهداء، الكبار منهم والصغار، والوفاء للأسرى الذين غادروا قضبان السجن، والذين ما زالوا ينتظرون يوم حريتهم. تغرق عبون الإنسان بالدموع حين يرى أما تزغرد يوم وداع شهيد أو أكثر من أبنائها، فلا يملك إلا أن يتمثل عظمة هذا الشعب الذي يقدم يوم رحيل القائد الرمز الشهيد أبو عمار، نموذجا لأرقى المشاعر والأحاسيس التي تجتاح ملايين الفلسطينيين، وهم كيوم الحشر يتدافعون إلى المكان المخصص لإحياء ذكرى رحيله. غزة الشهداء والصبر والوفاء، خرجت في الذكرى الثالثة عشر لتحيي ذكرى رحيل رئيس وزعيم وقائد من نوع خاص، لتكرس في أكثر من مرة استعدادها لحماية الهوية والراية الوطنية، وتأكيد الوفاء للأهداف التي قضى من أجلها أبو عمار شهيدا. هي رسالة للقاصي والداني كما كان يردد أبو عمار، بل هي للداني قبل القاصي. ثمة معنى خاص ومتفرد لذكرى إحياء رحيل عرفات كلما حلت في الحادي عشر من نوفمبر كل عام، فهو من بين عشرات القادة الفلسطينيين الكبار الذي يلخص من موقعه في الحركة الوطنية الفلسطينية دروسا واستخلاصات عامة ينبغي أن يضعها كل قائد نصب عينيه. فعدا عن أنه ينسب إليه شرف تأسيس وإطلاق الثورة المسلحة المعاصرة تمتع عرفات بمزايا وصفات يفتقدها الفلسطينيون في القيادات الراهنة. لقد تصرف عرفات على أساس أنه ليس زعيما فلسطينيا فقط بل حفر لنفسه مكانة بين قادة حركة التحرر العالمية، الذين قضى الكثيرين منهم مثل ما وقع بالنسبة لعرفات الذي لم تتح له فرصة الاحتفال بتحقيق أهداف شعبه. كثيرون هم الرؤساء والزعماء والملوك العرب الذين لا يغيب ذكرهم عن صفحات التاريخ العربي المعاصر، لكنه الوحيد من بينهم الذي تحول قبره إلى مزار، ولم تغادر ذكراه ذاكرة كل فلسطيني، وتقام له مؤسسة باسمه ومتحف.، ويخرج الناس بمئات الآلاف كل عام في ذكرى رحيله. عرفات الذي اختلف معه الكثير من الفلسطينيين ولم يختلفوا عليه، كان أبا حانيا وقائدا وزعيما كبيرا، تميز بالتواضع بقدر ثقته بنفسه وشعبه وبالتسامح وسعة الصدر والقدرة على جمع المتناقضات واحتواء المختلفين بينهم ومعه. كان متواضع في لباسه ومأكله ومشربه يقبل أيادي الأطفال وأمهات وأباء الشهداء والأسرى. لم يغرق عرفات الزعيم في رسميات وبروتوكولات مهماته المتعددة وأسفاره التي لم تتوقف بحثا عن دعم قضية شعبه فكان يجد متسعا لوداع شهيد أو زيارة مريض أو حضور احتفال أو مأتم. كان عرفات يعرف أنه سيمضي شهيدا وهو القائل ” شهداء بالملايين على القدس رايحين” فقد تعرض عشرات المرات لمحاولات اغتيال. من لا يتذكر جريمة تدمير بناية الصنائع في بيروت خلال حصارها عام 1982 وكان الهدف اغتيال ياسر عرفات واللجنة المركزية التي كانت ستجتمع في تلك البناية في التوقيت الذي تعرضت فيه للقصف بقنابل فراغية؟. على قدر بساطته وتواضعه إلا أنه كان شديد الحذر يرفض الروتين . إذا كان من المستحب أن يذكر الناس محاسن أمواتهم، فإن عرفات الإنسان كانت له أخطاؤه وربما كانت كثيرة بحكم طبيعة مسؤولياته لكنه كان صاحب موقف حاسم في اللحظات الحرجة. زعيم من هذا النوع، كان لابد أن يكون صاحب رؤية واضحة إزاء القضية، والمصالح الوطنية، بعيدة كل البعد عن الشخصانية والمظهرية المزيفة. كان حريصا على الوحدة الوطنية ومستعد للتسامي فوق الخلافات، والتهم التي تلقى منها الكثير خصوصا حين غادر طرابلس لبنان إلى تونس مرورا بمصر، وحين استجاب إلى ما يعرف بالمشروع الأردني، وأيضا حين وقع اتفاقية أوسلو. لم يفقد عرفات البوصلة ولا تخلى عن الخيارات، فهو الذي عاد من مفاوضات كامب ديفيد في تموز 2000 ليعلن على الملأ رفضه للموقفين الأمريكي والإسرائيلي، وهو الذي قاد انتفاضة الأقصى ودعم تشكيل كتائب شهداء الأقصى. خذله الزعماء العرب الذين ضاقوا ذرعا بصلابة موقفه، وبمناوراته لحماية قضية شعبه، فتامروا عليه في قمة عمان 1987، وكان أغلبيتهم على وشك شطب كرسي منظمة التحرير في القمة لولا اندلاع الانتفاضة الشعبية الكبرى التي ارغمت العرب على التعامل بشكل مختلف مع المنظمة، وبعضهم من باب النفاق والمسايرة. وخذله الزعماء العرب حين تعرض للحصار الإسرائيلي في المقاطعة، وتركوه لمصيره وكأنهم أو بعضهم يعرف بأنه لن يخرج عليهم مرة أخرى، فكانت كلمته للقمة وكأنها خطبة الوداع. عرفات غادر شهيدا بقرار أمريكي إسرائيلي والأرجح أنه بموافقة أو تواطؤ بعض الزعماء العرب، وبمسؤولية إسرائيلية مباشرة، لأنه كان يشكل عقبة أساسية في وجه المشاريع التصفوية للقضية الفلسطينية. إن رحل عرفات فإن إرثه الوطني الكبير لم و لن يختف وهو لا يزال يلاحق كل من يحاول دفن ذلك التراث تحت رخام المزار الذي يرقد فيه.
مشاركة :