قاعات العروض السينمائية التي توفر فرجة كلاسيكية ما زالت قائمة ولن تختفي مهما كان انحسارها بدليل وجودها وتكاثرها في أكثر البلدان تقدما في التكنولوجيا الرقمية.العرب حكيم مرزوقي [نُشر في 2017/12/26، العدد: 10852، ص(12)]ظهور صالات عرض مترفة تقف في منزلة بين المنزلتين وافق أخيرا مجلس إدارة الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع في السعودية على إصدار تراخيص للراغبين في فتح دور للعروض السينمائية بالمملكة. ومن المقرر البدء بمنح التراخيص بعد الانتهاء من إعداد اللوائح الخاصة بتنظيم العروض المرئية والمسموعة في الأماكن العامة خلال الأيام القادمة. وقالت وزارة الثقافة والإعلام في بيان صحافي إن “الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع ستبدأ في إعداد خطوات الإجراءات التنفيذية اللازمة لافتتاح دور السينما في المملكة بصفتها الجهة المنظمة للقطاع”. هذه بشارة خير يحملها العام الجديد لعشاق السينما في السعودية من جمهور وهواة ومحترفين وعاملين في شتى الاختصاصات السمعية والبصرية، ذلك أن من شأن هذه الخطوة أن تسهم في تطوير اقتصاد القطاع الثقافي والإعلامي ككل، وتوفر فرصا وظيفية في مجالات جديدة للسعوديين، علاوة على الأدوار التثقيفية والترفيهية التي يمكن أن تلعبها. مجموعة أسئلة تفرض نفسها وتوجه للمرحبين بهذه الخطوة من المتحمسين إلى الفرجة السينمائية على الطريقة الكلاسيكية والتي تعني الذهاب إلى قاعات العرض العمومية في المدينة واقتناء تذكرة لمشاهدة شريط سينمائي يعرض على شاشة حائطية أمام جمهور عريض ومتنوع من الناس. وأول هذه الأسئلة تتعلق بجدوى هذه الخطوة في الوقت الذي تغلق فيه دور السينما بمدن كثيرة بالعالم العربي وتتراجع لصالح التقنيات الرقمية الحديثة، والتي بفضلها يتمكن الفرد وهو مع أسرته وفي بيته من مشاهدة أحدث الإنتاجات السينمائية في العالم وبمواصفات أصبحت غاية في الدقة والوضوح.قاعات ما يسمى بـ"هوم سينما" تتيح حرية اختيار وقت العرض الذي يرغب فيه الشخص، حيث تفتح أبوابها من منتصف النهار حتى منتصف الليل لماذا هذا الحنين المزمن إلى كل ما هو قديم وشاق ومعقد في الوقت الذي توفر للمشاهد فيه وسائل الاتصال الحديثة الوقت والمال والراحة وكذلك الأمان والرفاهية؟ لماذا هذا الرفض المجاني للحداثة والاختصار والرفاهية وهي على بعد أزرار من أعيننا وأصابعنا؟ لماذا هذا الهوس بـ“القدامة” في حين أن الإنسان حداثي وتحديثي بطبعه؟ وفي المقابل يرد عشاق المشاهدة الكلاسيكية للأفلام السينمائية، بأن الفرجة وما يرافقها من احتفالية هي جزء من ذلك السحر الذي طالما رافق السينما منذ بداياتها. ويشبه أحدهم الأمر بالفرق بين تناول العشاء في مطعم بصحبة من تحب على ضوء الشموع مع موسيقى رائقة وعلى طاولة من مجموع طاولات أخرى، تتقاسم معها متعة اللحظة، وبين أن تتعشى في البيت بصفة روتينية اعتيادية لا جديد ولا مفاجآت فيها. الإنسان مدني واجتماعي بطبعه كما قال ابن خلدون، ولا يستطيع الواحد خوض الحياة بكل تفاصيلها منفردا دون تشاركية تحتفي بالحياة وتعطي الوجود البشري عمقا جماليا.. أليست صناعة السينما في حد ذاتها حالة تشاركية من حيث تنوع وتعدد الاختصاصات في إنجاز الفيلم الواحد؟ توفر وسائل رقمية حديثة للمشاهدة الفيلمية لا يعني الاستغناء عن ارتياد قاعات السينما كثقافة مجتمعية تفسر وتدعم معنى الانتماء إلى المدينة كفضاء معرفي وثقافي. ثمة “منزلة بين المنزلتين” قد تحل مشكلة هذه الخصومة المحتدمة بين عشاق التردد على قاعات السينما ومدمني المشاهدة في البيت أو ما يمكن تسميته بين مرتادي السينما بالبدلة الرسمية أو بالبيجاما. هذه المنزلة أو الخيار الثالث يمكن تسميتها بالسوبر السينما، وهي توفّر قاعات عرض بمواصفات ترفيهية تحسسك وكأنك في بيتك، وفي المقابل تشعرك هذه القاعات بأنك في صالة عرض كلاسيكية عمومية من تلك التي نعرفها في الوجدان الشعبي والجمهوري بشكل عام. وفي هذا الصدد قال وزير الإعلام العماني خالد النبهاني إن “هوم سينما” في العاصمة مسقط، هي أول دور سينما حول العالم تقدم قاعات خاصة لعشاق الأفلام حيث يمكن للشخص مشاهدة الفيلم مع عائلته أو أصدقائه بخصوصية تامة وبتفرد تام. وتقدم هذه القاعات أشهى المأكولات العالمية والعربية أثناء مشاهدة الفيلم، حيث يُمكن للشخص خلال مشاهدته الفيلم أن يقوم بضغطة زر لدعوة النادل وطلب كل ما يشتهيه من مأكولات عالمية وعربية من مطعم هوم سينما الخاص. والجدير بالذكر أن قاعات ما يسمى بـ“هوم سينما” تتيح حرية اختيار وقت العرض الذي يرغب فيه الشخص، حيث تفتح أبوابها من منتصف النهار حتى منتصف الليل. قاعات العروض السينمائية ما زالت قائمة ولن تختفي مهما كان انحسارها بدليل وجودها وتكاثرها في أكثر البلدان تقدما في التكنولوجيا الرقمية، كما أن هذه التكنولوجيا لن تتراجع أو تترك مكانها للفرجة الكلاسيكية. لماذا المشقة والسينما في جيبي وعلى فراشيلغة الآن وهنا المسكونون بالنوستالجيا والمتشبثون بـ“القدامة” هم جماعة يعقّدون الأمور على أنفسهم وعلى الآخرين. إن حال من يدير ظهره لتقنيات العصر الرقمية وما توفره من راحة واختصار وربح لكل شيء، ويعود القهقرى لصالح قاعات العروض السينمائية الكلاسيكية، هو كحال الذي يحفر بئرا في سبيل الحصول على مياه الشرب في الوقت الذي تتوفر فيه المياه الصالحة للشرب في الحنفيات المنزلية والمحلات التجارية. كن ابن هذا العصر بكل المقاييس ولا تجعل خرافة الحنين إلى الماضي تسيطر عليك، فما الماضي إلا خرافة، وهم يستبد بالواحد تحت يافطة الحنين ويسلبه إرادة الانتماء إلى الحاضر والمستقبل. ما ضرك أن تجوب العالم وتشاهد أكثر من فيلم سينمائي وأنت في البيجاما على فراشك أو أمام الشاشة الرقمية في مكتبك؟ السينما لم يعد عنوانها شارع كذا أو مدينة كذا أو الفترة كذا من الزمان حتى يجود عليك القيمون على السينما بفيلم ذي طابع موسمي مثل هدايا العيد. نعم، إننا نسخر الآن من تلك المرحلة الحمقاء التي كنا نشاهد فيها شريطا سينمائيا معمما على الجميع في قاعة عرض بائسة وعديمة الشروط الصحية والوقائية والأمنية. الكل يتقن الحنين ويزايد على المنتمين إلى العصر بنوع من الشاعرية الوهمية الجوفاء، لكن لا أحد يجرؤ على ذكر وتذكّر الكوارث والفجائع التي اندلعت في قاعات السينما العمومية. أين المتعة في أن يجازف الواحد بحياته من أجل مشاهدة فيلم في الوقت الذي يوجد هذا الفيلم (بل أفلام) في جيبه أو على شاشته الرقمية بأبسط الشروط وأرخص الأسعار، ومتى وأين يشاء؟ موقع مثل اليوتيوب يوفر لك أي مادة فيلمية تطلبها وأنت على مكتبك أو في بيتك أو في المقهى، فلم الاستغناء عنه والذهاب إلى قاعة تشغل حيزا من المكان والزمان والانشغال والتخطيط والتنميط؟ الشريط السينمائي على الشاشة الرقمية ينتظرك وأنت في الحمّام أو تعد فنجان قهوة أو تجري مكالمة هاتفية، بينما لا ينتظرك الفيلم وأنت في قاعة عرض سينمائي تلتزم بشروطها ولوائحها وأوقاتها.ثقافة العصر هي الاختصار ولذلك جاءت الشاشات الرقمية لتجيب على هذا السؤال وتعطي البديل لذلك صار الحنين إلى أساليب الفرجة الكلاسيكية ضربا من المتحفية لا يقول لك أحد أمام جهازك في بيتك “أبعد رأسك قليلا” أو “كف عن السعال”، ولست مضطرا إلى مشاهدة اللقطات الدعائية السمجة من تلك التي ترافق الشريط السينمائي المعروض في الصالة. الفلاشر المحمول في الجيب والذي يركّب على أي جهاز رقمي ذي شاشة وإن كانت بحجم كف اليد، هو عبارة عن مكتبة سينمائية بكاملها، فلماذا الاستغناء عنه وتعويضه بمشقة الذهاب إلى قاعات السينما التي لم تعد آمنة في هذا الزمن الصعب؟ القول بأن التردد على قاعات العرض السينمائي عادة اجتماعية وتقليد ثقافي ذو طابع شخصي، هو ضرب من الكذب على الذات، ذلك أن بإمكاننا أن نحافظ على عاداتنا الاجتماعية ونخلص لتقاليدنا الشخصية بمعزل عن هذا الوهم الذي يحاول التقليديون إقناعنا به. أين المشكلة في أن يتفرج الواحد مع أسرته وأصدقائه على فيلم سينمائي من خلال شاشة رقمية يتجمهر حولها الأحباء ويبدون تفاعلاتهم مع الشريط المعروض بمنتهى الأريحية والتلقائية دون حرج من الغرباء والآخرين؟ المسكونون بوهم الماضي يحاولون تجميل كل شيء له علاقة بالأمس حتى وإن كان بائسا ومتخلفا. ألم يكن المقبلون على الفن السابع بالأمس ينتقدون من طرف الذين يقولون بأن مشاهدة السينما تلهي عن القراءة والاستماع إلى الراديو؟ يجب تقبل ثقافة كل عصر وإلا فاتنا قطار الحضارة والتقدم، وينبغي الاعتراف بأن قاعات السينما في طريقها إلى الاندثار، لا بفعل غياب ثقافة السينما فحسب بل لأن العصر الديجيتالي لم يعد يسمح بمثل هذا الهدر المفرط للوقت والمال. ثقافة العصر هي الاختصار وربح الوقت ولذلك جاءت الشاشات الرقمية لتجيب على هذا السؤال وتعطي البديل، لذلك صار الحنين إلى أساليب الفرجة الكلاسيكية ضربا من المتحفية وأحيانا مدعاة للسخرية، كذلك السينمائي الذي يحب تصوير فيلمه بالنيغاتيف التقليدي الذي يحمّض في المخابر، وحين سئل عن سر تعلقه بالقديم أجاب بأنه يحب رائحة النيغاتيف، فرُد عليه: بسيطة، بإمكانك أن تصور فيلمك بالديجيتال الحديث ثم تمسك بقطعة من كليشة النيغاتيف، تقربها إلى أنفك وتشتمها. الحنين مشروع، ويكتسي طابعا شاعريا وقد يصلح للأرشيف، لكن العصر لا يعترف إلا بلغة الآن وهنا. فيلم في الصالة خير من عشرة على الشاشة الرقميةالدوران عكس عقارب الساعة من لم يصب منذ طفولته بـ“لوثة” مشاهدة الأفلام في قاعات العرض أو حتى في فضاءات أخرى شعبية ومتفرقة، سيستسهل بالتأكيد كل بديل يمكن اقتراحه تحت وهم تعويض ذلك الطقس الفرجوي الآسر النبيل، وربما قال في نفسه ما قالته تلك المرأة المسنة التي لم تذهب قط في حياتها إلى قاعة سينما “إنها مجرد شاشة تعرض أفلاما يعيد التلفزيون عرضها بعد مدة.. ولو انتظر الناس قليلا لوفروا على جيوبهم وصنعوا الفوشار في المنزل وأمضوا وقتا مسليا دون إهدار المال”. قاعة السينما ملتقى دائم لأجمل ما يمكن أن يميز الإنسان عن كل الكائنات الحية، ألا وهو الخيال. الشغف بالسينما يشمل كل التفاصيل المحيطة بهذا الفن الساحر، والتي تصبح لها مذاقات خاصة وروائح آسرة. ولا يقدر جاذبية قاعة السينما إلا من قادته قدماه يوما إلى هذا الفضاء الثقافي والاجتماعي والمعماري الذي تتباهى به المدن في الشرق والغرب حتى أمست دور العرض دررا فنية بمسمياتها، فهذه قاعة باراديسو، وتلك الأهرام، وهذه الكوليزي، والأخرى الجوهرة أو دنيا أو الحمراء أو الزهراء أو المونديال أو المونبرناس وغيرها. مشاهدة الأفلام السينمائية عبر الشاشات الرقمية ليست من السينما في شيء، إنها مثل اشتمام وردة بلاستيكية من خلال كمّامة، ذلك أن السينما طقس احتفالي يبدأ بقطع التذاكر وشراء كيس الفوشار ومناقشة الفيلم بعد عرضه مع الأصدقاء، ثم إن الواحد يؤرخ لمواعيده ولقاءاته وذكرياته الجميلة بعناوين العروض السينمائية وتواريخها. السينما سحر يبدأ بالتأنق وضرب المواعيد أمام قاعة العرض، ولا ينتهي بانتهاء الفيلم بل يظل يرافقنا حتى آخر العمر. ما الذي جعل الأنفاس تحبس والأعناق تشرئب حين تنطفئ الأضواء في الصّالة المخمليّة الحمراء كي تدور تلك البكرة الغريبة عكس دوران الأرض فتنضح حياة وحبّا وأصواتا ودموعا تكاد تترك ملحها وآثارها على ذلك المنديل الأبيض الكبير الذي يسمّونه الشاشة.قاعة السينما ملتقى دائم لأجمل ما يمكن أن يميز الإنسان عن كل الكائنات الحية، ألا وهو الخيال والشغف بالسينما يشمل كل التفاصيل المحيطة بهذا الفن الساحر من منّا لا يتذكّر قصيدة سينمائيّة اسمها “سينما براديسّو” وأسطورة تعتمر قبّعة وتمشي بخطى سريعة وحذاء مفلطح على إيقاع موسيقى مبهجة اسمها شارلي شابلن: الأسطورة التي أضحكت وأبكت وسخرت وأمتعت لأنّها خاطبت وجدان كلّ الناس في قاعات السينما وليس من الشاشات الرقمية. من شدّة غرابة السينما أنّها أصبحت مرجعا للواقع وليس العكس، كيف لا وهي أكبر من واقع يصغر أمامه التلفزيون ويقترب منه المسرح. لقد سمّى الناس أولادهم وتسمّوا بأسماء نجومها وامتهنوا أعمالا أوجدتها السينما وتحدّثوا لغة لم توجد إلاّ في السينما وأحبّوا حبّا لم يوجد إلا في السينما بل ومارسوا عنفا لم يوجد إلا في السينما والتقوا مع من تقاسموا معه العمر في قاعات السينما. دور العروض السينمائية لم تختف في أكثر البلدان تقدما وقربا من التكنولوجيا الحديثة بل تزداد أكثر كما تشير كل الإحصائيات ويعد اختفاؤها جريمة في حق الثقافة والذاكرة الجمعية. الجميع ثمّن الخطوة التي أقدمت عليها المملكة السعودية ضمن جملة إصلاحاتها وهي الترخيص بفتح قاعات للعروض السينمائية، ذلك أن مصادر مطلعة توقعت أن يؤدي تشغيل القطاع السينمائي إلى زيادة حجم السوق الإعلامي، وتحفيز النمو والتنوّع الاقتصادي من خلال المساهمة بنحو 90 مليار ريال إلى إجمالي الناتج المحلي، واستحداث أكثر من 30 ألف وظيفة دائمة، إضافة إلى أكثر من 130 ألف وظيفة مؤقتة بحلول عام 2030. وبات حلم افتتاح صالة العروض السينمائية يراود الشباب، إذ أن صالات السينما في الدول الخليجية المجاورة كانت تعج بالأسر السعودية التي تجتاز المسافات لتملأ صالات العرض وليكون الجمهور السعودي واحدا من أهم مصادر الدخل لتلك الصالات، وكانت صالات عرض البحرين ودبي والكويت، الجاذب الرئيسي للسائح السعودي. غياب دور العرض السينمائي في السعودية لسنوات طويلة لم يوقف الشغف بهذا الفن الآسر، فلقد كانت الأفلام السعودية تنافس في المحافل الخليجية والعربية، وغازلت الجوائز الدولية أيضا، وكان للمنتج السعودي ثقله على الرغم من عدم وجود صالات عرض محلية. وبدأ الإنتاج السعودي للأفلام عام 1950 بفيلم «الذباب»، وحصد الفنان حسن الغانم لقب أول ممثل سعودي في تاريخ الأفلام السعودية، وبعد 16 سنة خرج إلى النور فيلم «تأنيب الضمير» للمخرج سعد الفريح، وبعد 11 سنة ظهر فيلم «اغتيال مدينة»، وفي 1980 طرق الفيلم السعودي أبواب الرواية الطويلة من خلال فيلم «موعد مع المجهول» من بطولة الفنان سعد خضر، وامتد أكثر من ساعتين ونصف الساعة.
مشاركة :