لا أفتأ أقف بين حين وآخر عند قول الكواكبي: «ما بال الزمن يضنّ علينا برجال ينبّهون الناس، ويرفعون الالتباس، يفكّرون بحزم، ويعملون بعزم، ولا ينفكّون حتى ينالوا ما يقصدون!!» فقوله يقصد به أشخاصًا وُلدوا في الحياة ليس ليكونوا عددًا جديدًا وأنفاسًا أخرى، بل ليصنعوا فارقًا، وليتركوا معلمًا. جاءوا الحياة لتكون من بعدهم أفضل ممّا كانت قبلهم. ليس بالادّعاء ولا بسرقة مجهود غيرهم، ليس لحصد الأوسمة، ولا لنيل المديح ولا التصفيق، إنهم يعملون من أجل قضية يؤمنون بها، أو مبدأ سامٍ يسعون لترسيخه، أو فكرة عظيمة يجاهدون لنصرتها. فما أصعب أن تلقى شخصًا وقد سلك في الحياة عقدين أو ثلاثة أو أربعة وهو لم يجد لنفسه هدفًا ومعنى وقيمة!! ولا يزال تائهًا ضائعًا، وفي أحسن الأحوال تجده يقول: لا زلت أبحث عن نفسي.. أبحث عن هدفي.. أختار لي طريقًا!! وما أسوأ أن تجد من يرى نفسه أكبر من حجمه الطبيعي فيجعل من كلّ صنيع بطولة، ومن كلّ فعل ملحمة، فيرى نفسه عظيمًا، ويرفع نفسه وقدره في أعين الناس بهتانًا وزورًا ووهمًا. لا ضير أن يفخر المرء بما ينجز، ويسعد بما يحقّق، بيد أن الشخص العظيم حقًا هو من يعترف دومًا بحجمه الحقيقي. فالإعجاب بالذات المبالغ به يمنع الازدياد والنموّ والترقّّي، فحين يُعجب المرء بما صنع وقدّم فلن يزداد علمًا ولا إنتاجًا، فالمرء يكبر ويعلو قدر علوّ غايته لديه وكبر طموحه فيها وجهده في تحقيقها. كثيرون منا آباء وأمهات.. لا نمتاز عن بعضنا البعض إلاّ في رسالتنا نحو أبنائنا وسعينا نحو تحقيقها. فكلّما سمت الرسالة وعلت الهمّة في إعداد نشء صالح ازداد التباين والتفاضل بيننا. وكثيرون هم الذين يعملون في مهنة معلم، لكنّ قليلاً منهم من جعل قضيته أن ينقش في عقول تلاميذه وفي نفوسهم كيف يكونون عظماء، ويفعل ذلك بحب واختلاف وحرص صادق. أن تصنع فارقًا ساميًا عظيمًا في الحياة ليس مستحيلاً ولا محدود الملامح والأشكال. فما أراه أمرًا عاديًا قد تراه أنت رائعًا، وما أعتقد بعظمته قد تراه متواضعًا، وهذه النظرة المتباينة المختلفة هي سرّ التنوّع في الحياة، فكل ميسّر لما خلق له. فحين يعمل شخصٌ ليسدّ ثغرة تجد آخر في موضع آخر يبني بنيانا. وتجد ثالثًا يرمّم تصدُّعًا، كلّ منهم يعمل بحبّ وتميّز وعطاء ليقدّم اختلافًا.. وليصنع فارقًا.. وبهم جميعًا تتكامل الإنسانية وتحقّق المصالح. وكما بدأت مقالي بقول جميل أختمه بقول آخر جميل لابن الجوزي إذ يقول: «على الإنسان أن يصل إلى غاية ما يستطيع، فلو كان لآدمي بلوغ السماء لكان من النقائص بقاؤه على الأرض». alshaden@live.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (46) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain
مشاركة :