في شارع"إمبايررود"بمدينة كيب تاون بجنوب إفريقيا.. يجلس شاب متوسط القامة على الرصيف يكدس بجانبه العديد من الكتب في مختلف العلوم، والمجلات سبق له قراءتها بشكل جيد.. ومن ثم قام بعمل ملخصات لها مبسطة احتفظ بها بجانبه.. وكلما مرّ أحدهم استأذنه في قراءة ملخص كتاب يرغب فيه.. أو سمع عنه.. وبحرفية وقدرة على فهم الشخص الذي أمامه.. يمكنه أن يبيع له الكتاب كاملا ً إن أحبّ الملخص.. خاصة وأنه يحتفظ بكل كتاب وملخصه.. أما إذا سمع الشخص الملخص ولم يعجبه فلا بأس في ذلك ولامشكلة في أنه لم يشتر الكتاب..!! إنها ثقافة الأرصفة ولكنها بالنسبة لهذا الشخص عمل شريف بدلا ًمن التسول أو مد اليد.. وطريقة رائعة لكسب الرزق من خلال العرض وليس الطلب.. الذي قد يأتي بناء على إعجاب الشخص المستمع للشرح وتذوقه لتفاصيل الكتاب وتناغم الفكرة مع توجهه في القراءة.. يُضاف إليها قدرة هذا الشاب على إيصال الملخص بطريقة جيدة ومناسبة ومن المؤكد أنه يُحب القراءة ويتفهمها بوعي وإلا ما كان تمكن من التلخيص لأن الملخص أصعب من القراءة وهو يعني خلاصة ما قرأت.. وكلما كان مختصراً كان أصعب..!! ما بين الطرق المتعددة لكسب الرزق اختار هذا الشاب الطريقة الأصعب ولكنها الأجمل والأكثر تأثيراً في الوجدان والنفس.. اختار أن يقرأ ليثقف نفسه ويجدها.. ويمزج هذا الوجود بكسب عيشه وهو الأهم.. هذا الكسب به أيضاً جانب إنساني ومعرفي.. مع الآخر لأن كل من سوف يشتري الكتب مرتبط بالوعي والمعرفة.. وعناصر التكوين لديه أبرزها الارتباط بلوحة الحروف التي تشكلها ذاكرة النوافذ المشرعة على الخيال ونقل الذاكرة لتحتفظ بما تشاء حتى وإن كنت لاتزال في مكانك..!! في مصر ارتبط القارئ العادي ببسطة الجرائد أو كشك الصحف.. الذي يقف فيه شخص تعتاده على مدى سنوات طويلة.. وميزة الصحف في مصر أقدم دولة عربية طبعت صحيفة منذ نهاية القرن التاسع عشر أنها تبدأ في التوزيع من التاسعة مساء كطبعة أولى وبعدها تتوالى الطبعات الأخرى.. وهو ما يمنح العائد إلى منزله شراء الجريدة مبكراً ومعرفة ما يجري.. من تجربتي في مصر وترددي عليها اعتدت على بائع صحف قديم وشهير "عم رمضان" يفرش صحفه في قلب ميدان التحرير الشهير.. وعلى رصيف مغلق بالأسوار.. يبيع كل الصحف القومية والمعارضة وأيضاً الكتب بأنواعها والتي تطبع خارج دور النشر التي طبعت بها بمعنى أنها طبعات مسروقة.. مع كتب قديمة لا ينتهي الطلب عليها ولايتوقف.. وإن بحثت عن كتاب ولم تجده سيوفره لك غداً.. بطريقته.. الأهم في الأمر أن من يعتاد القراءة من طفولته.. لايستطيع أن يتوازن إن هو تركها.. ولذلك أجد نفسي كل ليلة حتى مع من يرافقني من الأهل والأصدقاء أتجه الى عم رمضان الذي يبقى هو متلألأ ًفي ليل القاهرة إلى طلوع النهار.. يبدو من شكله أنه رجل غير متعلم.. بسيط ولكنه يحفظ كل الصحف ويعرف توجهاتها.. ويقف على بسطته عشرات السهارى للشراء أو للتصفح النظري لكل الجرائد ومن ثم شراء واحدة فقط.. حسب الاعتياد..! الطريف أنه يتعود على المترددين عليه ففي مرات كثيرة أرسل السائق ويرسل لي كل صحفي التي تعودت عليها منذ سنوات.. وعندما أتغيب وأعود يحدثني عن صحف جديدة وتوجهاتها رغم معرفتي بها.. ولكن هو يعرف ويستوعب من يشترون معه وماذايقرأون حتى وإن لم يكن يقرأ..!! الطريف ان عم رمضان ظهر مرات عدة في فترة الثورة المصرية ومنذ بداية مسلسل ميدان التحرير وارتباط الثورة به.. تحدث عن تأثير الميدان على توقف الرزق.. ومن ثم التعطل وشهادته كشاهد عيان ليلي على ما حدث لشهور طويلة.. من وجهة نظره وكذلك توجهه باعتباره أحد أركان ميدان التحرير على مدى أربعين عاماً أو أكثر..!! يبدو لي وأنا زرت عواصم عربية متعددة أن القاهرة هي المدينة الوحيدة التي تبيع صحفها في الليل.. أمام المقاهي والإشارات والأرصفة وكأن القاهرة تريد أن تقول إن "الثقافة والوعي نبتا من هنا"حتى وإن لم تكن الصحف وسائل تثقيف.. وحتى وإن تراجعت القاهرة وأدوارها الأدبية في السنوات الأخيرة وطالتها عواصم عدة وتفوقت عليها.. إلا أنه لا يمكن إلغاء هويتها في تشكيل الوعي المعرفي والثقافة وهي حقائق لاشكوك بها.. سواء الأدب المقروء أو تشكيل الوجدان العربي فنياً من خلال السينما المصرية وهي من أقدم السينمات في العالم أو التلفزيون أو المسرح وهو الذي شهد تراجعاً مهولا في السنين الأخيرة..!! بين كسب الرزق وبين نشر الوعي والثقافة علاقة مشتركة وتوافق وإن ذهب مردوده إلى الجيوب إلا أنه عادة ما يذهب إلى العقل.. ويصطفي الوجدان.. ويستكين على ضفة الإنسانية..!
مشاركة :