يكاد يختزل مشهدنا السعودي -للأسف- في صراعات تقوم على « الشخصنة « بين التيارين المهيمنين على ساحتنا ، في تأزيم للأجواء المحتقنة أصلاً بالتصنيفات والتفسيق والتبديع من جهة..، والاستعداء والتحريض على إخراس المخالف من الجهة الأخرى . بدلا من الصراع المشروع بين الأفكار والتدافع الصحي بينها ، لتثبت النافعة منها قدرتها على البقاء والاستمرار بما تتضمنه من قدرة على مواكبة الواقع والإجابة على أسئلة وتحديات العصر . ربط إشكالية التشدد بأشخاص فقط - على سبيل المثال - وهدر سياقاتها السياسية والثقافية يسطح القضية ويزيف الوعي ، فبنية الفكر المتشدد لم تسقط علينا من السماء ، بل فُتح المجال لها طويلا لتتغول وتبرمج العقول عبر أقنية متعددة -على رأسها التعليم- نتيجة لاعتبارات ومصالح سياسية آنذاك . وفي واقع الأمر لم تكن الصورة وردية تماما قبل ما سمي بالصحوة ، وإن كان المجتمع قبلها أكثر تقبلاً - نسبيا - للاختلاف ومفردات التحديث ، كونه كان -نوعا ما- متخففاً من ثقل الإيدلوجيا مما جعل سلوكياته أقرب للعفوية مع المرونة اللازمة لتدوير المصالح . حتى الموقف من المرأة لم يكن أيضاً بذلك الإشراق قبل الصحوة ، وكتاب الدكتور عبد الله الوشمي الجميل ( فتنة القول بتعليم البنات ) يوضح ويوثق طبيعة الممانعات التي لقيها تعليم البنات آنذاك ، والتي تشي بواقع النظرة للمرأة. لاشك أن لبنية التشدد المهمشة للمقاصد الكبرى للشريعة حضور في موروثنا الثقافي والأفهام الدينية ( البشرية ) المتعاقبة للنصوص، كما كانت هناك تمظهرات للتدين الشكلاني والتمسك بالتفاصيل القشورية منذ بداية نشوء المدارس الفقهية وتأثرها بالسياقات والصراعات السياسية الكائنة ذلك الوقت ، مما همش القيم الجوهرية كالحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة . وفي قناعتي أن خاصية التشدد موجودة في كمون داخل الجسد البنيوي للفهم الديني ، حتى تأتيها اللحظة البرجماتية المواتية لتوظيفها وتمكينها من الهيمنة من جديد ، وهنا لابد من العودة إلى جذر الأمر وأصله في الموروث الثقافي إذا ما أردنا تفكيكاً للفكر الذرائعي المضيق لدائرة المباح . تقويض الفكر المتشدد وتفتيت أدبياته لن يتأتي إلا بفتح الباب على مصراعيه لفكر وفهم ديني مغاير، يقارعه وينحت تراكماته في الذهنيات ، مما يتطلب عملاً طويلاً واشتغالاً دؤوبا وتمكيناً رسمياً لهذا الفكر على كافة الأصعدة التعليمية والإعلامية والثقافية والاجتماعية. والتخلص من إرث الأحادية لا يكون إلا بالحفر العميق في البنى الفكرية والأنساق الثقافية ،والسماح للأفكار الجديدة الشجاعة بالتحرر والخروج من معاقلها ، مع فتح القنوات المدنية للأفكار المخالفة لها للتعبير عن رأيها حفاظاً على السلم الاجتماعي . من المستحيل هز القناعات وتفكيك المفاهيم النمطية عبر الشخصنة، ومن يفعل ذلك لن يجد أرضاً خصبة لبذر أفكاره إلا عند من يشابهه ، فالشخصنة تجرد المرء من الموضوعية وتعريه من المصداقية . amal_zahid@hotmail.com
مشاركة :