عرفتها منذ عقود، سيدة ألمانية تتمثل فيها أحلي ما نعرف عن بني جلدتها؛ رجاحة عقل، إتزان، كفاءة، تفاني، دقة، انضباط، عفة لسان، إلتزام، واقعية، قوة إرادة و إخلاص. شهدت شابة الحرب العالمية الثانية، عملت بسفارة بلدها بمصر، و تزوجت في خمسينات القرن الماضي من مصري اصيل، وقفت الي جانبه حتي أصبح رجل أعمال ناجح، و رزقت بابن وحيد وفي و دمث الخلق. طوال معرفتنا عاملتني و اسرتي كأقرباء بعناية و كرم ، بدفء و إخلاص، و أصبحت جزءا من حياتنا اليومية بإتصال أو لقاء، و رغم ضعف النظر و السمع في اخر سنوات عمرها، فقد ظلت حتي التسعين علي حضورها الذهني و استقلالها المعيشي و نضج شخصيتها و تكيفها الهادئ مع متغيرات الحياة في مصر خلال مايربو علي ستين عاما، تعطي دون انتظار، و تشعر بالآخرين حتي و ان لم يفهموها، تتأقلم مع تراجع الصحة في هدوء، تتمتع بتمالك النفس مهما زادت التوترات حولها، و تتحدث بأدب و حكمة و حزم. اليوم عدت من جنازتها، دفنت في مقابر هادئة جميلة مثلها، لكن لن تنته سيرتها في صندوق، فغير معالم التأثر علي الحاضرين، عدد دبلوماسي ألماني مآثرها منذ كان عضوا شابا بالسفارة تقدم له الدعم و المودة كزميله ، حتي جاء ليودعها خلال عمله للمرة الثانية في مصر بعد عقود. طيبة خلقها و هدوء سريرتها ذكرتني بأن نعيش حياتنا في هدوء؛ فأقدارنا مكتوبة، حكمة أسلوبها و صدق عطائها ذكرني بأن سيرتها ستبقي قدوة في قلوب من خالطوها، تقبلها الهادئ الواقعي لمتغيرات الحياة و الصحة ذكرني بأن الانسان الناضج يعرف كيف يحتفظ بثباته الانفعالي و عفويته و صدقه و انضباطه مهما تزايدت الضغوط .لا أقول وداعًا سيدتي، فذكراك حية بيننا ، و روحك الصافية المعطاءة ستظل تمنح من عرفوك المثل و المحبة المخلصة.
مشاركة :