د.هادي التونسي يكتب: ميركل معجزة القيادة

  • 1/17/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

هي أول سيدة تولت زعامة حزب ألماني لمدة ١٨ عاما ، و كانت أصغر من تولي منصب المستشار الألماني منتخبة لأربع ولايات، تنتهي باعتزالها السياسة عام ٢٠٢١؟ هي من تولت رئاسة مجموعة الثمانية و المجلس الأوروبي واعتبروها حاكم الامر الواقع للاتحاد الأوروبي ، و من حصلت علي القاب مستشارة العالم الحر و أقوي امرأة في العالم في تقييم فوربس لعدة سنوات ، ومن اختارتها مجلة تايم الامريكية شخصية العام؟.كيف كانت الأكثر شعبية طوال فترات حكمها، و لم تتفوق عليها مؤخرا بفارق ضئيل الا رئيسة حزبها الديمقراطي المسيحي رغم حداثة عهدها بالمنصب، و كيف أسموها في بلدها بالمرأة و المستشارة الحديدية و الأم، و أم اللاجئين ، بل والابنة بعد أن تبناها سياسيا المستشار الأسبق هيلموت كول؟.لماذا استطاعت ان تلعب دورا رئيسيا في معاهدة لشبونة و اعلان برلين ، و تنقذ الاتحاد الأوروبي من أزمة اليورو و الديون السياسية، و توسع الشراكة الأوروبية الأطلسية اقتصاديا ،و تصفها الولايات المتحدة بأنها افضل شريك لها ، بل وتؤيد غزو العراق باعتباره بلا بديل، وفي نفس الوقت تمارس سياسة الحوار و الردع مع روسيا، و تتعاون معها في محاربة الارهاب ، بينما تدعو الي تقليل الاعتماد عليها في مجال الطاقة، و تتلقي أوسمة و درجات فخرية من الولايات المتحدة و أوروبا واسرائيل و الهند و بيرو و السعودية والإمارات بالإضافة الي جوائز للوحدة الأوروبية ؟ ، و لماذا لم تمنعها علاقات التحالف مع الولايات المتحدة ان تنتقد تجسس الأخيرة علي مكالماتها الشخصية ،وأن تصف الرئيس ترامپ بأنه لا يمكن الثقة به ، و أن تدعو الي إنشاء جيش أوروپي موحد، و لماذا لم تمنعها زياراتها المتكررة للصين من لقاء الدلاي لاما بصفة غير رسمية في برلين ؟.هذا المقال ليس تقييما لسياساتها، بل محاولة لفهم شخصية زعيمة تاريخية حتي لو لم نتفق علي هذا لاستقاء العبر.إنجيلا ميركل من أصول ألمانية پولندية، أسلافها كانوا من رجال القانون و الإدارة و السياسة و الدين، والدها ولد كاثوليكيا، و أصبح قسا لوثريا بروتستانتيا ، ووالدتها معلمة لغة إنجليزية، أنجباها في هامبورج ، لكنها عاشت في ألمانيا الشرقية بحكم عمل والدها، ودخلت تنظيمات شبابية بها ليمكنها الحصول علي فرصة دراسة الكيمياء الفزيائية، و أتقنت اللغات الإنجليزية و الروسية و الألمانية ، و بالطبع درست الشيوعية، حتي انهار حائط برلين و الشيوعية، فإنضمت الي حزب الصحوة الديمقراطية الذي اندمج فيما بعد في الاتحاد الديمقراطي المسيحي، وانتخبت نائبة في البرلمان عام ١٩٩٠ ، و عملت كوزيرة للنساء و الشباب، ثم وزيرة للبيئة و السلامة النووية، ثم زعيمة للحزب عام ٢٠٠٠ ،و منذ عام ٢٠٠٥ اول مستشارة لألمانيا. دعمت ميركل برنامجا جوهريا لإصلاح الاقتصاد الألماني والنظام الاجتماعي، وكانت تعتبر أكثر تأييدا للسوق من حزبها، و دعت الي تغيير قانون العمل لدعم التنافسية و الي تعزيز التعاون الأوروپي واتفاقيات التجارة العالمية، و آثرت عقد اتفاقية شراكة مع تركيا بديلا لانضمامها للاتحاد الأوروپي ، كما رأت أن محاولات إقامة مجتمع متعدد الثقافات فشلت، و مع هذا أعلنت ان الإسلام جزء من ألمانيا رافضة ربطه بالإرهاب ، واستقبلت أكثر من مليون لاجئ من سوريا و العراق و أفغانستان ، و ضغطت علي الدول الأوروبية لاستقبال المزيد وفاء للالتزامات الدولية و دعما لسوق العمل، و هو ما أدي الي صعود اليمين المتطرف في ألمانيا قبل ان تترك رئاسة الحزب.من تلك المسيرة يمكن ملاحظة انها تعرضت لتأثيرات عديدة ساهمت في تكوين شخصيتها؛ أسلاف في مجالات الإدارة و التوجيه ،بما في ذلك الوالدان ، جعلوا القيم و التخطيط و الطموح جزءا أساسيًا من دوافعها، و تباين في الأصل العرقي و نظم المجتمعات و الثقافات الشيوعية و الرأسمالية والألمانية و الروسية و الكاثوليكية و البروتستانتية، فاستطاعت القدرة علي التفهم و الاحتواء وأن تتقن دعم القاسم المشترك مع الغير و ضبط المسافات ،بينما تتمسك بالقيم و بمفهوم الحرية، الذي ألجأها الي دراسة الكيمياء الفيزيائية و الحصول علي الدكتوراه، بعيدا عن تدخلات الشيوعية ، و هو المجال الذي تخصص فيه زوجاها، و ساعدها علي التفكير العلمي ، ليضفي الدقة علي القدرة التنظيمية. بل ان عدم انجابها ربما وراء ذلك الإحساس بالأمومة الذي ظهر في وصف المجتمع الألماني و اللاجئين لها، بل وفي وصف زعامتها للاتحاد الأوروبي و العالم الحر. ميولها الانسانية ظهرت في توليها وزارات المرأة والشباب و البيئة و السلامة النووية، و في تعاملها مع قضايا اللاجئين و الارهاب، وبدت في ردها علي مطالب القضاة مساواة مرتباتهم بالمعلمين، حين ساءلتهم كيف يمكنها ان تساويهم بمن علموهم، بل و كان تركيبها القيمي المتماسك وراء تلك المصداقية و سنوات الزعامة الأطول في أوروبا ، اذ انه رغم مكاسب من يتصفون بالماكياڤيلية فهي مكاسب قصيرة المدي، لانه لا يمكن خداع كل الناس كل الوقت، اما الپراجماتية التي يبدو انها اتبعتها بأسلوب متوافق مع القيم، فهي تلك الپراجماتية التي جعلتها تقدر علي التعامل مع الواقع و إيجاد القواسم المشتركة مع كافة الأطراف و ضبط المسافات ،بما يراعي المصلحة القومية الألمانية .سيرة ميركل حافلة بالدروس؛ خبرات دينية و تربوية و تنظيمية و ثقافية و عرقية و ايديولوجية و علمية و حزبية و سياسية و اخلاقية قل ان تجتمع و تتآلف في فرد واحد، بما مكنها ان تكون نفسها و عالمة و زعيمة و إنسانة و محبوبة و قوية و رائدة و ذات عزم ورؤية؛ قيادة تاريخية فذة ستفتقدها بلدها و أوروبا و العالم و الانسانية حين تعتزل السياسة عام ٢٠٢١، لكن سيرتها ستبقي نبراسا للأجيال و للمرأة في كل مكان.

مشاركة :