د.هادي التونسي يكتب: مارتن لوثر

  • 1/4/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

كان مثيرا للجدل، لكنه ،كان مستعدًا للتضحية من أجل قضيته حتي النهاية. كان غير راض عن نفسه، لكنه غير التاريخ، وأرضي مئات الملايين عبر قرون. كان يريد ان تتوافق معتقداته مع عقله ،ففجر ثورة دينية اصلاحية أشعلت حروبا في اوروبا لأكثر من قرن، أراد ان يصلح دينه، فأعاد اوروبا الي طريق الحضارة و التقدم بعد الف عام من انهيار الإمبراطورية الرومانية.ولد مارتن لوثر لأب موثر في القرن السادس عشر، اراده محاميا فدرس القانون، لكن حادثا قدريًا غير حياته، فحينما نجا من صاعقة في جو عاصف و رعد،كان عليه ان يوفي بنذره ان يكون قسيسا ،فالتحق بدير و درس اللغات القديمة، و احب الرب و التأمل و الفلسفة، لكن حياة الدير أورثته الشعور بالافتقار للرضا عن النفس ، إذ إعتاد حين درس المحاماة أن يعيش حياة الطلبة بما فيها من اختلاط و شراب و موسيقي. كانت الكنيسة الكاثوليكية (بمعني العالمية) قد استطاعت لألف عام منذ انهيار الإمبراطورية الرومانية ان تبقي علي وحدة شعبها، تمنح البركات و الصبر علي حياة عسيرة في انتظار جنة السماوات، تبشر و تعاقب، و تجمع التبرعات،و تصفح بصكوك الغفران، و تقصر العلم علي رجال الدين في مكتباتها، يتلون إنجيلا بلغة لاتينية، لا يفهمها الشعب، كنيسة تنافس بنفوذها نبلاء يحكمون و يحمون و يمتلكون الأراضي، بينما تغرق الغالبية العظمي من الناس في الجهل و البؤس و حياة اشبه بالعبودية المؤسسية لنظام إقطاعي يستخدم أجراء يلتصقون بالأرض ، يهلك أطفالهم احيانا قبل البلوغ، و يهاجمهم وباء الطاعون الذي قتل ثلث سكان اوروبا،كنيسة حتي في روما تزداد غني من أموال الفقراء، و ينتشر فيها الفساد. نظام أبدل سادة الإمبراطورية الرومانية في بلده ألمانيا برجال الدين، و تصميم قاعات المحاكم و الحكم بالكنائس الضخمة المزدانة بالتماثيل و النقوش المذهبة و الزجاج الملون المعشق.لكن مارتن لوثر واكب عهد الاكتشافات الجغرافية و اضطهاد الكنيسة لعلماء، ناقضوا ما تدعيه من ان الأرض مركز الكون، عهد شهد البحث في جذور الحضارتين الإغريقية و الرومانية و نهضة فكرية، و ساهم بروحه و فكره في إذكاء التناقض في نفس مارتن لوثر بين حياة قسيس كاثوليكي يلتزم بحياة صارمة، و ما اعتاده من حياة منفتحة و فكر منطقي.قطع مارتن لوثر علي القدمين رحلة من مسقط رأسه قرب برلين عبر جبال الآلب الي روما ، بحثا عن حل يريح نفسه و عقله ،و يزيح عنه شعورًا انه يغضب الرب، فلم يجد الا المزيد مما عرفه عن الكنائس، بما رآه من ثروة و فساد في روما المحج المعنية بصكوك غفران و تكبير كنائس من أموال الفقراء و قتل المعارضين بدعوي التمسك بوحدة شعبها. فواجه بشجاعة جمع التبرعات لتكبير الكنائس.إعتقد أن الأعمال الصالحة و التبرعات ليست هي مدخل الجنة، بل الخلاص بالإيمان هو المفتاح، شعر بأن العلاقة المباشرة مع الله هي المدخل ، و بدأ مذهبه ينتشر في بلده، التي أرادها مركز فكر و ثقافة من خلال كتاباته الأدبية الماهرة و رسوماته الساخرة و علاقاته العامة، و حيث ساعده علي ذلك ظهور الطباعة.رأي أنه لا يمكن شراء رضا الرب بالتبرعات، و لا يمكن التقرب الي السيد المسيح بتأمل بقايا عظام البابوات ،بل بأن يحب الانسان اخاه متبعًا كلمات الله ، فاتهمه البابا بالهرطقة،و هدد بطرده من الكنيسة ان لم يتب، و أمر بحرق كتبه ،فزادت شعبيته، و أصبح عدوا للبابا و الإمبراطور، لكن الأخير عامله بحذر، رغبة في استمالة المقاطعات الألمانية ضد غزو العثمانيين لاوروبا حتي ڤيينا، فعقد له مناظرة علنية، لكن مارتن لوثر تمسك بمنطقه، فإعتبره البابا مهرطقا، و هرب مختبئا في قصر بألمانيا ، و رغم شعوره بالكآبة عكف علي الدراسة و ترجمة الإنجيل الي لغة ألمانية يفهمها العامة.انتشرت كتابات و ترجمات مارتن لوثر، و ذاع صيته بين الناس ،و اصبح بطلا، و هجر قساوسة الكنائس،و تزوجوا ،و تحولت حركته الي ثورة اجتماعية و سياسية ضد الإقطاع ايضا، و بنتائج ابعد مما توقع، و إنتشر مذهبه خارج ألمانيا، فعاد الي مسقط رأسه، ليوجه و يؤسس الكنيسة اللوثرية التي أدت عبر الزمن الي نشر حرية الفكر و الديمقراطية، حيث امتد التأثير الي سويسرا لتوحيدها من خلال تفرعاتها بآراء و مذاهب كالڤين و الكنيسة المشيخية ثم فرنسا و هولندا و الدنمارك و السويد و إنجلترا و إسكتلندا لأسباب فكرية و سياسية و شخصية ،بل امتد تأثير حركة الإصلاح الي مذاهب كاثوليكية، مثل توجه لاصلاح النفس بدعوة ظهرت في روتردام ،و مثل تكوين مذهب الچيزويت اليسوعيين في اسبانيا محاربة لفساد الكنيسة و الهرطقة معا. و هاجم الثوار البروتستانت الكنائس الكاثوليكية لتغيير بنائها الي البساطة و بارغن موسيقي بدلًا من التماثيل و الزخارف المذهبة و الزجاج المعشق و لتحويلها للبروتستانتية، ، فتغير فن الباروك و مشاهد الدراما الإلهية ، و مارس الكاثوليك محاكم التفتيش ضد البروتستانت و اليهود، فكل طرف يري انه يملك الحقيقة، كما كان لوثر يكره عدم تحول اليهود الي المسيحية.أصبحت اوروبا لقرن مسرحا لحروب، و خرج أمراء الولايات عن كنيسة روما من اجل المال و السلطة و الأرض ،و تخلصا من نفوذ و منافسة الكنيسة المحلية و بوقف التبرعات و مصادرة ارض الكنيسة، كانت الأرض الألمانية مسرح الحروب المذهبية فقتلت ثلث الشعب، و اشتعلت حرب الثلاثين عاما منذ عام ١٦١٨ الي ١٦٤٨، حيث ساند الامبراطور البابا.و ساد الدمار اوروبا، حتي اصبح لدي الحكام صلاحية اختيار المذهب لشعوبهم ،و اصبح الشمال بروتستانتيا و الجنوب كاثوليكيا. ظل الكاثوليك يهتمون بالطقوس، و يعتبرون القديسين و القساوسة وسطاء لدي الرب،و يمارسون الاعتراف في الكنائس و الروحانيات، و يتبعون البابا في روما ، أما البروتستانت فيستغنون عن بعض الطقوس ، و يتواصلون مع الرب مباشرة بلا كهنوت، بالصلوات ودراسة الإنجيل كمصدر وحيد للسلطة الدينية ضمن اختلافات اخري.و اصبح مارتن لوثر استاذا للدين، و تزوج راهبة و انجب منها، و جمع المفكرين حوله في حياة عادية متمتعا بملذات الحياة من جنس و شراب و موسيقي بشكل مشروع ، و اعتبر ان الناس سواسية بالإيمان دون وساطة، و لحن الموسيقي و طبق التعليم المختلط و كورال الغناء الكنسي حتي وفاته عام ١٦٥٢.تزايد الإصلاح خلال قرون، و تراجعت سلطة الكنيسة لصالح العلمانية و محو الأمية و الرأسمالية و الفن الإنساني و روح الديمقراطية، و تعلمت اوروبا التسامح بعد الحروب المذهبية، و انه يجمعهم دين و حرية دينية و تقدم. و نمت الحرية السياسية بتأثير الثورة الفرنسية، و الحرية الفردية من خلال الحريات المدنية.ناضل مارتن من أجل معتقداته و لفهم افضل للرب و التسامح و التعددية، إنتصر لسيادة العقل و المساواة و لإعادة الدين الي جذوره و بساطته بالتخلص من كهنوتية رآها فاسدة محتكرة ، تثري علي حساب الفقراء، و تسرق دنياهم البائسة بأحلام الجنة الموعودة. حرر العقول، و زاوج بين الدنيا و الدين، كانت ثورته التنويرية عسيرة المخاض بملايين القتلي في أكثر من قرن، لكنها كانت من أسس نهضة أوروبا التي نراها الآن، فهل نجد لدينا من يجددون علينا ديننا لنستعيد حضارة كانت مزدهرة، هل يستطيعون تنقية التراث من ممارسات تخالف الدين، هل يقدرون علي تعزيز التوافق بين العقل و التدين، و بين الضمير و الأحكام ، و بين العلم و الدين، و بين الشكل و الجوهر، و بين أسلوب الحياة و التمدين، و بين الكلمة و الفعل ، و بين الأصالة و المعاصرة، و بين حب الدنيا و الأخرة ، و بين الفتوي و المبادئ الإنسانية، و بين التدين و التسامح؟ هل يستطيعون ذلك سلمًا، تنويرا و عملًا، نضالا و تفانيًا ؟سفير بالمعاش طبيب هادي التونسى

مشاركة :