ما قبل أولاً كلمة في صلب الموضوع موضوع هذا المقال ومقال الأسبوع الماضي هو مشاركتي في جزء من ندوة «الشعر الشفاهي ومستقبل دراسات الفلكلور والتراث الشفهي في العصر الرقمي «التي نظمتها وشاركت بها د. منيرة الغدير ببحث عنوانه «تردد في الدراسات الأكاديمية للشعر البنبطي والتراث» مع كوكبة كونية من الزملاء د. جوزيف فلكي ناجي/ جامعة هارفرد، د. علي بن تميم رئيس مركز أبوظبي للغة العربية، د. ديبور كابشان/ جامعة نيويورك، د. ضياء الكعبي/ جامعة البحرين، د. ليلى أبولغد/ جامعة كولومبيا. الندوة قدمت على منصة «أدب» الإلكترونية بمتابعاتها المليونية @adab. وسيكون لي بعد أسبوعين من هذا المقال عودة للندوة ومنصتها ولمبادرة صاحبة الفكرة ومنظمتها في سياق سؤال الشعر وجسور الثقافة عالمياً. أولاً: لا أظن أي من جيلي لم تتفتح حواسه الأولى على موسيقى الشجن وتنهيدة «الونة» تنسكب من الشعر الشعبي ممزوجاً بأفراح وأحزان النساء يترقرق ما بين صدور نافرة وخواصر ناحلة ونفوس حيية تكابد شظف العيش تنشغل أعوادها بالحمل والولادة عن قسوة الواقع وتتستر على أمانيها الغافية في الحنايا وأشواقها الدفينة في الأعماق ومخاضاتها اليومية بالصبر وبقصائد الشعر الشعبي. فقد كان الوقت لا يزال قريباً من سطوة الصحراء ونمط حياة البداوة أو الحياة الحضرية المتداخلة معها ولم تكن سطوة النفط قد محت بعد ذلك التعالق الروحي بين العالمين كما كان سحر التعليم للتو قد مس أطفالهن من البنات. وإذا كانت ذاكرتي الحفظية لم تبق لي إلا القليل من كلمات ذلك الشعر الشعبي الذي كانت تقوله أمي مأخوذاً عن شعراء وشاعرات مغمورين أو معروفين أو مستلهماً من قريحتها الشعرية الخاصة، فإن ذاكرتي الوجدانية لم تفرط قط بإيقاع ذلك الشعر، بل صار مصدراً سرياً أعود إليه كلما ساورني قلق العلاقة بين الشعر الشعبي والشعر الحديث (1) انطلاقاً من هذه البداية يمكن القول إن علاقتي بالشعر الشعبي كمجترحة لما يعتبر الشكل المتطرف من الشعر الحديث المتمثّل في قصيدة النثر بانطلاق تجربتي في عمر مبكر منتصف السبعينات الميلادية، قد مرت بعدة مراحل تفاوتت بتفاعلها مع مد وجزر الحالة المحيطة من الواقع الاجتماعي في تأثرها وتأثيرها الجدلي مع الحالة الشعرية العامة في إطار ذلك الواقع ثانياً: أعتقد أنه مرت مرحلة في العالم العربي بدأت من الستينات الميلادية وتراوح امتداداتها أدت فيها سيطرة المد القومي العروبي والتوجه اليساري على الساحة الثقافية العامة بالوطن العربي إلى تعزيز مكانة الشعر الفصيح وتحديداً الشعر الحديث على حساب ما سواه من أشكال الشعر الذي اعتبر إما تقليدي كالقصيدة العمودية أو أعتبر شعبياً ونقيضاً للحداثي كالشعر الشعبي بمسمياته المختلفة في الوطن العربي بما فيها شعر الزجل ببلاد الشام والشعر النبطي بالجزيرة العربية/ المملكة العربية السعودية والخليج، مع أن مداً من الشعر الشعبي وقتها خرج على أغراضه التقليدية وعني في قصائده بموضوع الوطنية العروبية وبقضايا التحرر الوطني. وهناك دراسات عن أمثلة كثيرة في المشرق والمغرب العربي على وجود أمثلة يعتد بها من قصائد الشعر الشعبي الوطني(2) وهذه المرحلة هي التي عاش فيها بعض جيلي حالة من التوتر العالي في العلاقة بين الشعر الشعبي والشعر الفصيح في تجاربهم الحديثة ومنها تجربتي، وإن كان من الجدير بالذكر أن بعض شعراء الشعر الحديث بالمملكة العربية السعودية تحديداً قد استعاضوا عن تطعيم قصائدهم الحديثة بالرموز الأسطورية كما فعل شعراء غربيون من اليوت إلى لويز جلوب وشعراء عرب مثال السياب.. أدونيس.. عبدالصبور.. بتطعيم شعرهم بشعر شعبي وأحسب أن الشاعر علي الدميني أبرز من فعل ذلك في فضاء الشعر السعودي الحديث(3) وإن كنتُ شخصياً لم أتبن أبداً طوال تاريخي الشعري ولم أقبل إطلاقاً تلك المواقف التي نظرت بمنظار تراتبي للشعر الشعبي والشعر الحديث وأعطت الشعر الفصيح أفضلية على الشعر الشعبي، ناهيك عن تحفظي على تلك المواقف الاتهامية في حق الشعر الشعبي كمقوض للغة القرآن ومخرب لذائقة اللغة العربية السليمة، بل إنني بالتدريج أخذتُ في الميل للرؤية الخلدونية والرؤية الأدونسية في النظر للشعر الشعبي كنبع من الينابيع الشعر الصافية(4). ثالثاً: لقد ساعدت دراستي للفكر الغربي النقدي دراسة أكاديمية من خلال تخصصي في علم اجتماع المعرفة وعملي بمناهج البحث الكيفي إبان عملي على أطروحة الدكتوراه وخلال مسيرة عملي الجامعي على تحريري من مأزق الثنائيات عموماً ومن نرجسية الانتماء لقصيدة النثر من الشعر الحديث مقابل الأشكال الشعرية الأخرى سواء كان عمودياً فصيحاً أو شعراً نبطياً(5). ولا بد أن طروحات ما بعد الكولونية وما بعد الحدثة النظرية قد ساهمت عميقاً في ذلك التوجه الذي زعزع ثنائيات التمركز ووسع المجال للتنوع وانتشل المهمش والمستبعد من المتون الثقافية السائدة كجزء من التعدد الثقافي المحلي والكوني(6). وهذا ما ساعدني ليس فقط على محاولة تفكيك ثنائية الشعر الشعبي/ الشعر الفصيح نحو رؤيتها بمنظار الأطياف والتشظي ولكنه لفت انتباهي لإعادة النظر في الأداء الميداني للشعر النبطي الذي طالما لاحظته دون تدقيق إبان ما بعد النصف الثاني من الثمنينات والنصف الأول من التسعينات(7). ففي تلك الفترة بينما وجد الشعر الحديث الفصيح وهو للتو في أوج حركته الشبابية على ساحة الثقافة بالمجتمع السعودي نفسه مضطراً ليعيش حالة من الانسحاب والبيات والتخفي نتيجة ما عرف بهجمة الصحوة على الحداثة فقد عرفت مقابل محاولة كسر أجنحة الشعر الفصيح الحداثي، أجنحة الشعر الشعبي في عماء من عيون القناصة والمتربصين المتزمتين، وفي منعة من تعلق الوجدان الشعبي بالشعر النبطي. فبدى المشهد وكأن ما عرف بطفرة الشعر الشعبي وقتها قد جاء تعويضاً «غير مخطط» أو إنقاذاً من براثن الصحوة لأرض الجزيرة العربية لئلا تتقطع السبل بين أرض الشعر وبين الشعر. فصدرت على التوالي، (توالياً ليس زمنياً هنا) مجلة قطوف/ رئيس مجلس إدارتها أ. محمد آل الشيخ ورئيس تحريرها الشاعر فهد عافت، مجلة الغدير لنايف الحربي، مجلة المختلف (1989م )، رئيس تحريرها الشاعر الكويتي ناصر السبيعي ومؤسسها مع كوكبة من الشعراء الشاعر بدر بن عبدالمحسن/ ممولاً وداعماً، ومجلة فواصل (1994م) ومن رؤساء تحريرها الشاعر د. محمد بن علي الحربي، أ. عبدالرحمن الحمدان لمؤسسها الشاعر طلال الرشيد. ومجلات أخرى مشابهة منها مجلة.. أبعاد رؤى.. بروز بجانب نشاط صفحات الشعري الشعبي وتوهجه بالصحف والمجلات الخليجية وبالأخص الكويتية، وبالطبع المطبوعات السعودية من جريدة الرياض لمجلة اليمامة وقد اشترك في تأسيس تلك المجلات وفي إعمارها شعراً شعبياً كوكبة من الإعلامين والمهتمين والكثير منهم شعراء مختصون بالشعر النبطي، ومنهم من كان قد شكل الطليعة المبكرة لمن أسميهم طليعة «الشعر الشعبي/ النبطي الحديث» في وقت مبكر السبعينات الميلادية، ومنهم من خرج مما عُرف بـ»طفرة الشعر النبطي» بنهاية الثمنينات والتسعينات. وهم جيل أو أجيال متداخلة وقتها من شعراء الشعر النبطي الشباب الذين لم يتميز شعر بعضهم النبطي بمغامرة كتابة قصيدة تفعلية نبطية بجانب القصيدة العمودية النبطية وحسب، بل إن بعضهم أبدع في تجديد الصور الشعرية النبطية مع إخراج مفردات الرموز التراثية المعتادة فيها من الأصايل للونة للنخيل وما إليه من قوالب الصور المعتادة وتحويلها لصور جديدة لم تمسها نظرة من قبل، بالإضافة لتجديد مدهش في استخدام اللهجة المحلية المحكية بكلماتها الموروثة والعفوية في تشكيل تعبيرات ومعان ومجازات جديدة. تمكنت بعض تجاربها في رأيي من اختراع بلاغة شعرية تكسر الحدود الجامدة القديمة الفاصلة بين الشعر الفصيح والشعر الشعبي وتنقل الشعر النبطي من طور الشعر النبطي التقليدي لشعر نبطي حديث بامتياز. كمثال هذه الومضة للشاعر مساعد الرشيدي - رحمه الله: وأنت بمتناول يدي تبدين مثل المستحيل قولي لهم يا عزوتي ما عابنا موت النخيل اللي يوافيها الأجل وتموت لكن واقفة آخر عباراتي وداع وأخر مشاويري رحيل جيتك وكبدي ناشفه وأقفيت وكبدي ناشفه ومن هؤلاء الشعراء ومعهم شاعرات الذين شكلوا مشهد الشعر النبطي الحديث خاصة في التواريخ المختطفة المشار إليها نهاية الثمنينات وبداية التسعينات الميلادية المثال المحدود من الأسماء التالية، وإن اختلف ترتيبهم الطليعي تجربة وعمراً عن الوارد هنا والذي يرجع تاريخ بعضهم للسبعينات ميلادي (يتبع المقال القادم).
مشاركة :