مسألة الديون العالمية، وخصوصاً تلك التي تعود للبلدان النامية والأشد فقراً، ليست معقدة، لكنها متداخلة بالطبع. وأزمة الديون بحد ذاتها ليست جديدة، والعالم مر بأزمات ناتجة عنها، سواء تلك التي انفجرت في آسيا في تسعينيات القرن الماضي، وأزمات الديون التي مرت بها دول كبرى في أميركا اللاتينية، بالإضافة طبعاً إلى الأزمة الاقتصادية العالمية التي ضربت العالم في 2008 بفعل انهيار بنوك ومؤسسات مالية من جراء قروض «غير صحية» منحتها «بكرم» لا حدود له. أي أنها قدمت قروضاً بلا ضمانات. ومع تفشي جائحة «كورونا»، تقدمت الدول المانحة بتسهيل سداد قروض البلدان النامية والفقيرة خلال فترة الوباء، عبر بعض الإعفاءات وتخفيف الفائدة، وتوسيع الحدود الزمنية للسداد. في هذه النقطة بالذات، تصدرت «مجموعة العشرين» المشهد، وأخذت زمام المبادرة. لكن المسألة لا تحل هكذا، خصوصاً أن الديون لا تزول تلقائياً، إلا إذا تم بالفعل الإعفاء منها، وهذا أمر لا يحدث إلا نادراً. من هنا بدأت الضغوط تظهر على الساحة العالمية ككل من جراء ارتفاع وتيرة الديون الحكومية والخاصة وديون الشركات والمؤسسات وغيرها، إلى مستويات تاريخية حقاً. وبلغ الأمر حداً، مع عجز عدد من الدول عن السداد. وهذه النقطة بحد ذاتها كارثة اقتصادية حقيقية. فلا يمكن لبلد يعجز عن السداد، مواصلة الاقتراض وتسيير شؤونه حتى بالحد الأدنى. وما يحدث عادة تعاد جدولة الديون للدول التي يمكن أن تقوم بإصلاحات اقتصادية حقيقية مقنعة للمانحين والمؤسسات الدولية ذات الصلة. والذي يرفع من حجم الضغوط أكثر، الارتفاع المتكرر للفائدة في البلدان المتقدمة بشكل عام، وفي الولايات المتحدة بشكل خاص. وفق الإحصاءات الرسمية، فإن غالبية الديون الحكومية مقومة بالدولار، معنى ذلك أن أي ارتفاع للفائدة الأميركية، سيزيد تلقائياً أعباء القروض من حيث القيمة وأقساط السداد. وهذا ما يبرر في الواقع ارتفاع وتيرة التخلف عن سداد الديون السيادية لدى البلدان الناشئة والنامية عموماً. وبحسب معهد التمويل الدولي، بلغ إجمالي الديون في 30 دولة، مستويات قياسية في العام الماضي، وسجلت 98 تريليون دولار. وإذا كانت هذه الأموال هي مجموع الديون الحكومية والخاصة وديون الشركات، إلا أن الحصة الحكومية منها تبلغ 65%، بارتفاع بلغ 10 نقاط مقارنة بمستويات ما قبل جائحة «كورونا». سترتفع أعباء الديون في العام الحالي أكثر، مع التوجهات المعلنة بمواصلة رفع الفائدة الأميركية، في سياق معالجة الأزمة المتزايدة الآتية من التضخم في الولايات المتحدة، وغيرها. صحيح أن الديون ليست حكراً على البلدان النامية والناشئة، فقد بلغ إجمالي الدين العالمي في السنة الماضية 303 تريليونات دولار، لكن المشكلة تتعاظم من جراء هذه الديون لدى الدول الأقل قدرة على مواجهة المصاعب الاقتصادية، خصوصاً من جهة النمو. ولا شك في أنه ليس أمام الجهات الدولية المختصة سوى النظر مجدداً بوضعية ديون الدول النامية، والتعاطي مع بعض المستجدات التي لا دخل للمقترضين فيها.
مشاركة :