د. إيمان بقاعي |حانَ وقتُ الحكايةِ | ثلاثون حوارية منقَّحة ومزيدة أبطالُها: حفيدٌ وجدّتُه وجدُّه [إهداء: إلى كل من لم يتسنَّ له سماعها مُمَثَّلةً عبر أثير إذاعة القرآن الكريم- دار الفتوى في بيروت – 2019] (أ) (في جلسة تضم الجدّ والجدّة وسامي) سامي (بقلق): ما يدهشُني يا جدتي، أنَّ صديقي جميلٌ لا تنقصُ علاماته في كلِّ الموادِّ علامةً واحدةً: في الحسابِ، والعربي، والعلومِ، واللّغةِ الفرنسيةِ، والإنكليزية، والجغرافيا. كيف يدرسُ؟ لا أدري! كم يدرسُ؟ لا أدري! أتمنى لو أضعُ كاميرا في بيتِهِ وأراقبُهُ! الجدّة (تضحك، بينما الجدّ يخاطبهما من المطبخ): مَن يريدُ أن يشربَ شايًا كالعقيقِ؟ سامي وجدته (معًا): أنا! الجدّ (يأتي): سمعتُ أنكما تتباحثانِ في طريقةِ الدّراسةِ، ووصلَ إلى سمعي في المطبخِ أنَّ أحدهَمْ لا تنقصُ من علاماتِهِ علامةً. الجدّة: نعم: وسيم، صديقُ حفيدِنا. سامي: جميل وليس وسيمًا يا جدتي! الجدّ: تفضلا اشربا شايكَما! الجدّة وسامي: سلمَتْ يداكَ! الجدّ: تعرفُ يا سامي، يا روحَ جدتِكَ مُهيبة، أنَّ هناكَ فروقًا فرديةً بين النَّاسِ، وليس من الضَّرورةِ بمكانٍ أن تكون نتائجُ الطُّلابِ متشابهةً. سامي (بإصرار وقهر): لكن، لا بدَّ وأنَّ هناكَ سرًّا، ويجبُ أنْ أعرفَهُ. الجدّة: والله يا سمسومةَ روحِ جدتِكَ، ذكرتَني بقصةٍ صارَتْ معي شخصيًّا قبل أكثرَ من أربعينَ سنةً، كنتُ وقتَها في صفِّ البكالوريا، وكانَ في صفي فتاةٌ اسمُها نورا، تشبهُ علاماتُها علاماتِ صديقِكَ وسيم. الجدّ: جميل. الجدّة: جميل، المهمُّ أنَّ علاماتِها يا سامي كانتْ تثيرُ لديَّ أسئلةً تشبهُ كثيرًا أسئلتَكَ عن سرِّ دراسةِ وسيم [تستدرك] أقصدُ جميل. الجدّ: آه! مَن شابَهَ جدتَهُ ما ظلمَ إذنْ… أخبرينا أخبرينا! سامي: كلي آذانٌ مصغيةٌ يا جدتي. (ب) (الجدّة تروي حكايتها): كادَ صقيعُ شتاءِ عامِ البكالوريا يخترقُ عظامي، ولكنه لم يمنعْني من أنْ أتدثرَ بمعطفي السّميكِ الذي أهدتني إياهُ جدةُ إحدى صديقاتي، وكانتْ روسيَّةً- يعني معطفُها آتٍ من بلاد الصَّقيعِ- فلففْتُ الشَّالَ الصُّوفيَّ حولَ أنفي ورقبتي خوفَ أن تضربَهُما العاصفةُ القطبيةُ التي احتلّتْ لبنانَ وقتَها، وسرتُ بحماسٍ إلى بيتِ نورا. الجدّ (لسامي): على فكرةٍ يا سامي، أسمعُ هذه القصةَ لأولِ مرةٍ. الجدّة (تكمل): كل شيءٍ كان يكسوهُ الجليدُ، حتى إنَّ الضَّفادعَ على الأرصفةِ تجمَّدَتْ، فشمسُ الظَّهيرةِ ما كانتْ وظيفتُها في تلكَ الأيامِ إلا أن تنيرَ الطريقَ، فقد استقالَتْ من مهمةِ الدّفءِ؛ لذا كانتْ خطواتي متسارعةً قدرَ الإمكانِ للوصولِ إلى بيتِ نورا لندرسَ معًا أو- وهذا هو الهدفُ الحقيقيُّ- لأكتشفَ سرَّ الاجتهادِ. الجدّ: طيبْ يا مُهيبة خانم. وصفُكِ جميلٌ جدًّا، ولكنه يقف حجرَ عثْرةٍ في طريق الحَدثِ. الجدة (غاضبة): الحدَثُ بلا وصفٍ، وصف: فَجٌّ [أي غيرُ ناضجٍ يا حبيبي يا سامي]، فَطيرٌ [يعني غير مختمِر يا سمسومة قلبي]، حسيرٌ [يعني بصرُهُ ضعيفٌ يا سمسم]، عَجُولٌ [يعني سريع يا سامي]، جافٌّ [تعرفُ معناه يا سمسومة قلبي]، (وتتابع الحديث مع زوجها): وليس فيه- يا عزيز أفندي- من الأدب والجَمَاليّة والفنية إلا تلك الشَّخْصيات الوَرَقية الشَّاحبة الملامح، والذَّابلة القسَمات، وهي تتحرك فيها كالجثث المحرّكة، أو تلك الأحداث الواهية الَّتي تضطرب عبرها أو معها، ثم لا شيء من وراء ذلك كما يقول أحد نقّاد الأدب المشهورين، وأنا طبعًا أوافقه الرَّأي، ولكن لا تسألني ما اسمه. الجد: يا ستي لن أسألكِ، أقالوا لكِ عني إنني أناقشُ رسالتكِ الأكاديمية؟ سامي: شكرًا جدتي لأنك شرحتِ لي ألفاظًا لم أسمع بها بحياتي، ولكن هل يمكنك أن تشرحي لي معنى: الحدَث، والوصف، وحجر عَثْرة؟ الجدة (مندهشة): ولكن كل حديثنا عن الحدَثِ والوصفِ، فما فائدةُ ما شرحتُه إن كانت المصطلحاتُ الأساس غير مفهومة؟ الجد (شامتًا): بالضّبط. ومن يخاطبُ طفلًا في الصّف الخامس، عليه أن ينتقي ألفاظَه بما يتناسب ومعجمَه اللُّغوي. الجدة (غاضبة): على فكرة- يا عزيز أفندي- أنت مَن طرحَ مصطلحَي الحدَث والوَصْف، ولستُ أنا. الجد: إذن؟ الجدة: آه، صحيح، وأنتَ من طرحْتَ أيضًا “حجر عثْرة”. سامي: صحيح يا جدي، أنتَ من فعلْتَ هذا. الجدة: عليكَ إذن أن تشرحَهما لحفيدِكَ، ولكن… بعد أن أنهي قصتي. الجد: لا مانعَ عندي. المهم، أوصلينا إلى الحَدَثِ! سامي: المهم يا تيتا مُهيبة، أخبرينا: وصلْتِ؟ الجدّة: وصلْتُ ودخلتُ. الجد (هامسًا بصوت خفيض من غير أن تسمعَهُ): الحمد لله! الجدة (تكمل): وفي غرفةِ الجلوسِ الكبيرةِ جدًّا والمفروشةِ بالسِّجادِ الصُّوفيِّ المُغطي كلَّ المساحةِ، كانت (نورا) – كعادتِها- قد “فلشَتْ” كلَّ كتبِ الرِّياضياتِ والفيزياءِ والكيمياءِ والتَّاريخِ على السِّجادةِ استعدادًا لدراسةٍ “غيرِ عاديةٍ”. سامي (ضاحكًا): آه يا تيتا مُهيبة! الجدّ: لا تستهِنْ بقدراتِ جدَّتِكَ أبدًا. الجدّة (تتابع): جلْتُ بنظري بسرعة ٍكبيرةٍ على الغرفةِ متسائلةً، بيني وبين نفسِي، عن سرِّ الأسرارِ: – أهي المساحةُ الكبيرةُ؟ أهي السَّجادةُ الصُّوفيةُ؟ أهي ألسنةُ النَّارِ المنبعثةُ من المدفأةِ؟ ولم أنتبهْ إلا متأخرةً إلى “بابورِ الكازِ” وقد تربعَ وسطَ الغرفةِ وعليه طنجرةُ ماءٍ كبيرةٌ من الألمنيومِ مليئةٌ بماءٍ يغلي. الجدّ (بدهشة): بابورُ كازٍ؟ سامي: بابورُ كاز؟ اشرحْ لي يا جدي ما تعني هذه الكلمة، أو تشرحُه لي فيما بعد مع تلك الكلماتِ الثَّلاثِ؟ الجدة: لا، فهذه الكلمة بالذَّات لا تؤَجَّلُ؛ لأن ما أحداثَ القصة كلها متعلقَةٌ بها. الجد (يشرح): اسمع، بابورُ الكازِ آلةٌ تكنولوجيةٌ اخترعها السّويديون قبل مئة عامٍ، وسميت بـ(البريموس) نسبة إِلى اسمِ البلدةِ السّويدية التي كانت أول من قامَ بصنعها، فاستُبْدلَ الطّبخُ وأعمالُ الغسيلِ من الحطبِ إلى… سامي: بابور الكاز… الجدة: يعني هو يشبهُ فرن الغازِ، ولكن يعمل على الكازِ لا الغازِ، ويصدرُ صوتًا عاليًا جدًّا أبعد ما يكون عن الموسيقا. سامي: يعني آلةُ طبخٍ وغسيلٍ صوتها أكبر منها! الجدة: على فكرة، حجم بابور الكاز- يا سامي- صغيرٌ بحيث يمكنك أنت أن تحملَه وتنقلَه من مكانٍ إلى آخَر. الجد: والمضحكُ أنه كانَ لابدَّ أن يحويَ جهازُ كلِّ عروسٍ بابورَ كازٍ تحمله إلى بيت زوجِها يبعدُ عنها عناءَ إشعال نار الحطبِ للطبخِ والغسيلِ. سامي (يضحك): آلة تكنولوجيةٌ تأخذها العروسُ معها إلى بيتِها. الجد (يخاطب زوجته): المهم، وجدتِ “بابورَ الكازِ” وقد تربعَ وسطَ الغرفةِ وعليه طنجرةُ ماءٍ كبيرةٌ من الألمنيومِ مليئةٌ بماءٍ يغلي. سامي: في غرفة الجلوسِ! الجدة: في غرفةِ الجلوسِ! الجدّة (تنهدت): أردتُ أن أضحكَ، بل أن أبكيَ، بل أن أتساءلَ إذا ما كانت (نورا) قد قرأتْ نوايايَ فأرادَتْ معاقبتي بطريقتِها التي اعتبرتُها طريقةً بشعةً، لو لم تلتفتْ (نورا) إلى “بابور الكاز” وتبرمْ أذنَه النُّحاسيةَ الصَّغيرةَ المستديرةَ، فينخفضُ صوتُه، وتخفُّ نارُه، وتهدأُ فقاعاتُ ماءِ طنجرتِه، ويتّضحُ صوتُ (نورا) قليلًا حين تقولُ: – أنا أصغرُ أفرادِ العائلةِ التي تزوجَتِ الأسبوعَ الماضي آخرُ بناتِها. وقد اعتدْتُ- مذ كنتُ طفلةً- على الدِّراسةِ في هذه الغرفةِ، وسطَ تسعةِ إخوةٍ وأخواتٍ أصواتُهم كانت أعلى من صوتِ هذا البابورِ؛ لذا… وصمتتْ (نورا)، فلم أستطعْ إلا أن أفتحَ فمي على وسعِه وأشهقَ صارخةً: _ لا! فقالتِ الفتاةُ وقد لوَتْ رقبتَها بخجلٍ: – بلى! وعدتُ لأتأكدَ: – معقولْ؟ أجابت (نورا): ولا أستطيع حفظَ جملةٍ واحدةٍ من غيرِ صوتِه! سامي وجده (بدهشة): يا إلهي! (ت) الجدّة (تتابع): المهم، نهضتُ ألبسُ من جديدٍ معطفيَ الرّوسيَّ، وألفُّ أنفي بشاليَ الصّوفيِّ وأسرعُ لانتعالِ حذائي قائلةً لنفسي: _ سأكتفي بعلاماتِ الرِّياضياتِ التي آخذُها من غيرِ صوتِ “بابور الكاز”. ضحكَ الجدّ: سأكتفي بعلاماتِ الرياضياتِ “القليييييييييييييييييييييلةِ”! الجدّة (مستعدة للحرد): ماذا تعني؟ ألم تخولْني علاماتي أن أصبحَ مديرةَ أكبرِ مدرسةٍ في بيروتَ؟ سامي (يتدخل لينسيها مشروعَ الحرَدِ الذي كادَ يطول): تيتا مُهيبة! الجدّة: يا روحَ جدتِكَ… سامي: أتريدينَ القولَ- في “زُبدةِ الحكايةِ”- إِنَّ لكلِّ شخصٍ منا طريقةً للدّراسةِ، لا يمكنُ أن يكتسبَها من الآخرين؟ الجدّة: هذا ما آمنتُ به بعدَ زيارةِ نورا. الجدّ (يسأل): وماذا عن علاماتِكِ؟ الجدّة: كانَ الحلُّ المنطقيُّ أن ألتحقَ بدورةِ رياضياتٍ في المدرسةِ، و… حصدْتُ العلاماتِ تلوَ العلاماتِ! الجدّ ضاحكًا: بلا صوتِ بابورِ الكازِ. سامي (ضاحكًا): حكايةٌ عجيبةٌ غريبةُ! الجدة (تذكّر زوجَها): لا تنسَ، يا جدو عزيز، أن تشرح لحفيدِنا أربعَ الكلماتِ. الجد: أربعُ الكلماتِ؟ الجدة: نعم، فبالإضافةِ إلى ثلاثِ الكلماتِ في قصتي الذّاتية هذه، اشرح له كلمة ارتجَنَتْ. الجد (بارتباك): آه، نعم، نعم. طبعًا، لمَ لا؟
مشاركة :