حَانَ وقْتُ الحِكايَةِ | الحكايةُ العشرون | فلاحُ حكايةِ جدي

  • 4/10/2023
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

د. إيمان بقاعي | ثلاثون حوارية منقَّحة ومزيدة أبطالُها: حفيدٌ وجدّتُه وجدُّه [إهداء: إلى كل من لم يتسنَّ له سماعها مُمَثَّلةً عبر أثير إذاعة القرآن الكريم- دار الفتوى في بيروت – 2019] (أ) الجدّ: أنا أعرفُ حكايةً عن فلاحٍ فقيرٍ أيضًا. الجدّة (تستنفر): قلتَ لي إنكَ تعرفُ حكايةً عن فلاحٍ فقيرٍ أيضًا؟ الجدّ: وما الغرابةُ؟ الجدّة (بقهرٍ): أبدًا! سامي: وكانَ- مثلَ فلّاحِ حكايةِ جدتي- يعملُ في حقلِهِ؟ الجدّ: طبعًا؛ فكلُّ الفلاحينَ يعملونَ في حقولِهمْ. الجدّة: لا! فبعضُ الفلاحينَ لا يملكُ حقلًا، بل يعملُ في حقلِ رجلٍ آخرَ لقاءَ نقودٍ. الجدّ (يصر): لكنَّ فلاحَ حكايتي كانَ يعملُ في حقلِهِ. الجدّة: تمامًا كفلاحِ حكايتي! الجدّ: ليسَ تمامًا. الجدّة: أثبتْ لي! الجدّ: لم يكنْ فلاحُ حكايتي كسولًا! الجدّة: أصلًا فلاحُ حكايتي لم يكنْ كسولًا قبلَ أن ينالَ المكافأةَ، بل كانَ يعملُ وبجدٍّ، ولكنه صارَ كسولًا بعد أن نالَ المكافأَةَ. سامي: بمَ تجيبُ يا جدو عزيز؟ الجدّ: أجيبُ أنه لو لم يكنْ عندَه استعدادٌ للكسلِ، لما استسلمَ له بمجردِ أن نالَ المكافأةَ. أما فلاحُ حكايتي، فلم يكنْ عندَهُ استعدادٌ للكسلِ. الجدّة (بتحدّ): وما الدّليلُ؟ الجدّ (غاضبًا): ما الدّليلُ؟ وهل تركتِ لي فرصةً أصلًا أبدأُ فيها حكايتي؟ سامي: صحيحٌ يا تيتا مُهيبة، فجدو عزيز لم يبدأْ حكايتَهُ بعد. الجدّة (بصوت شبه معتذر): طيبْ! احكِ! (ب) الجدّ: في قريةٍ بعيدةٍ بعيدةٍ، عاشَ فلّاحٌ فقيرٌ، لم يكنْ عندَهُ أيُّ استعدادٍ وراثيٍّ للكسلِ. الجدّة (بارتياح): ممتازٌ. سامي: أكانَ طمَّاعًا يا جدي؟ الجدّ: لم يمتلكْ أيةَ رغبةٍ للحصولِ على أيِّ شيءٍ غيرِ الذي يحصلُ عليهِ من كدِّ جبينِهِ، فما طمعَ يومًا في رِبْحٍ أكثرَ، ولا طمِعَ في كعكَةٍ، ولا في مالٍ… الجدّة: أكانَ مبذّرًا؟ سامي: ماذا تعنين يا تيتا مُهيبة بكلمةِ مُبَذِّرٍ؟ الجدّة: المبذِّرُ هو المُسْرِفُ. سامي: وماذا تعنينَ يا تيتا مُهيبة بكلمةِ المُسرِفِ؟ الجدّة: المُسْرِفُ هو الذي يُنفِقُ مالَهُ في غيرِ محلِّهِ. الجدّ: أصلًا لم يكنْ يملكُ من المالِ إلا القليلَ القليلَ الذي يكفي لشراء الطَّعامِ البسيطِ لأفرادِ عائلتِهِ. على كلِّ حالٍ، وحسبَ الظّاهرِ في بدايةِ الحكايةِ، لم يكنْ طماعًا ولا كسولًا ولا مبذّرًا، بل فقيرًا فقط. أما ما كانَ يؤرّقُهُ، فهو خوفُهُ على ابنِهِ من أن يشبَّ مثلَهُ فقيرًا، فلا يستطيعُ إكمالَ علومِهِ رغمَ كونِهِ نبيهًا ومثابرًا كما يقول معلّموهُ. سامي والجدّة (بحزن): مؤسفٌ! الجدّ (متابعًا): ومثل فلاحِكِ يا تيتا مُهيبة، سمعَ ذاتَ يومٍ صوتَ صراخِ طفلٍ صغيرٍ يعلو ثم ينخفضُ، ثم يعلو ثم ينخفضُ… ولكن- انتبهي- لم يكنْ ممتزجًا مع صياحِ رجالٍ ونساءٍ، بل كانَ منفردًا. الجدّة: وتركَ الفلّاحُ الفقيرُ ما بيدِهِ، وهرعَ نحو الصَّوتِ، فإذا بابنِ الأميرِ الصَّغيرِ يوشِكُ على الغَرَقِ في النَّهرِ… الجدّ (يقاطعُها): لم يكن ابنَ أميرٍ، بل ابنَ تاجرٍ كبيرٍ، ولم يكنْ يغرقُ في نهرٍ، بل في بركةِ طينٍ. الجدّة: فأنقذَهُ، وكافأَهُ بكثيرٍ من المالِ، فبنى بيتًا، و…. الجدّ: بل رفضَ النّقودَ والهدايا التي عرضَها والدُ الطّفلِ عليهِ، وقالَ للثّريِّ إنه لم يفعلْ إلا واجبَهُ، وإنه فعلَ ما سيفعلُ تمامًا لو أنَّ ابنَهُ هو الموشِكُ على الغرقِ. لكنَّ الثريَّ لم يكن ليقبلَ أن يخرجَ من بيتِ الفلاحِ من غيرِ أن يشكرَهُ، فاقترحَ عليه أنْ يأخذَ ابنَهُ ويربيهِ عنده ويتولى مصاريفَ تعليمِه حتى يصبحَ رجلًا يفيدُ بلادَهُ بعلمِهِ. سامي: لنْ يرفضَ الفلاّحُ هذا العرضَ بالطّبْعِ. الجدّ: بل كادَ قلبُهُ يرقصُ فرَحًا، لأنَّ ابنَهُ سيتعلم في مدارسَ مهمةٍ. وتعلمَ فعلًا وأصبحَ مهندسًا زراعيًّا كبيرًا. الجدّة وسامي: وفرَّحَ والدَهُ! الجدّ: وفرّحَ كلَّ أهلِ القريةِ عندما أنشأَ فيها مع صديقِهِ ابنِ الثريِّ-وكانا قد تابعا دراستهما الجامعيةَ معًا- مصنعًا متطورًا يأخذُ إنتاجَ فلاحِي القريةِ ويصنّعهُ، فإذا بالقريةِ تزدهرُ زراعتُها وصناعتُها وتجارتُها. سامي (بفرح): يا لها من فكرةٍ جميلةٍ! الجدّة: وأيةُ فكرةٍ! الجدّ: أما المفاجأةُ الأجملُ، فكانتْ… سامي: أن يصبحَ الفلاحُ مديرَ المصنعِ… الجدّة: حبيبي يا سمسومةَ قلبي، يا آخذَ مورّثاتِ الذَّكاءِ من جدتِهِ التي هي أنا… الجدّ: سمسومةُ قلبِكِ عرفَ أنَّ الفلاحَ المجِدَّ الذي لم يطمعْ بمالٍ، بل طمحَ إلى تعليمِ ابنِهِ، والذي كانَ في أوجِ عطائِهِ في السّتينَ من عمرِهِ، قادرٌ بالفعلِ على إدارةِ مصنعٍ ذاعَ صيتُهُ، فتحدثَتْ عنه الصّحفُ والمجلاتُ والإذاعاتُ، وفازَ بالجائزةِ الأولى للجودةِ عالميًّا. (ت) الجدّة: المثابرُ يستحقُ المكافأةَ! سامي: وماذا عن المهندسَيْنِ الشّابَّيْنِ؟ الجدّ: أما المهندسانِ الشّابّان، فبنَيا عشراتِ المصانعِ في عشراتِ القرى، فعملَ الفلّاحونَ، غيرَ خائفينَ من كسادِ محصولِهم، ودرسَ الشّبابُ والفتياتُ في الجامعاتِ، مطمئنّين أنَّ المصانعَ في قراهم تنتظرُ تخرُّجَهم. أما مَن درسَ التّجارةَ منهم، فقد قدَّمَ أفكارًا لم تكنْ لتخطرَ على بالِ المهندسَيْنِ الشّابّينِ، ولا على بالِ الفلاحِ الفقيرِ الذي أنقذَ طفلًا من الغرقِ في بركةِ طينٍ.

مشاركة :