2016/10/20 سألت الشاعر الراحل غازي القصيبي - رحمه الله - أثناء واحد من حواراتي معه عما إذا كنا نستطيع أن نضعه في عداد «قارة النبط» وفقاً لمصطلحه، بعد أن كشفت روايته الظريفة «أبو شلاخ البرمائي» عن موهبة خفية أو خافية في كتابة الشعر النبطي، واعتماداً على أن خفرات الشعر تفضحها زلات الرواية أحياناً، فأجابني يومها حرفياً: «كتابة الشعر النبطي شرف لا أدعيه وتهمة أدفعها بشدة، كل ما هنالك أني لاحظت أن عدد الذين يكتبون الشعر النبطي يكاد يزيد على عدد الذين يقرأونه ومعظم هؤلاء - عني الكاتبين لا القارئين - لا يتمتعون بأي موهبة تتجاوز رصف الكلماتِ، أحببت أن أشير إلى هذه الظاهرة العجيبة، بطريقة خفية أو خافية، فقال أبو شلاخ ما قاله من شعر ركيك»! والشعر «النبطي» الذي ورد في الرواية ركيك في مجمله ولكنه يتوافق، نسبياً وأسلوبه في كتابة القصيدة الفصيحة وتبايناتها في المستوى على مدى تاريخه الشعري الطويل والغزير، كما أنه كشف على صعيد آخر عن اهتمام القصيبي الفعلي والقديم بهذه القارية الشعرية النبطية، والذي يبدو أنه بقي راكداً في قاع الموهبة الإبداعية المتوزعة على كتابات شتى في اللغة والأسلوب والنوع أيضاً. في اللقاء نفسه كشف لي القصيبي عن واحدة من أمنياته الشعرية التي لم تتحقق لاحقاً رغم أنه عاش بعد ذلك اللقاء ما يقرب من سبع سنوات! أما الأمنية فهي أن يجترح قصيدة استسقاء يكون لها من الأثر ما كان لقصيدة محسن الهزاني الشهيرة في الاستسقاء، ونصحني يومها أن أرجع إلى من أسماهم ب «خبراء قارة النبط» إذا كنت لا أعرف القصة! وهذا لا يعني أن أبا سهيل كان يتمتع بثقافة شعرية واسعة في مجال الشعر النبطي وتاريخه ورموزه للدرجة التي يعد نفسه فيها واحداً من هؤلاء الخبراء المشار إليهم وحسب، بل يعني أيضاً أنه يحترم تلك الثقافة «الشعبية» ويعيش واحدة من أمنياته الشعرية تحت جناحها تحديداً رغم أنها ظلت أمنية عصية! وطبعاً لن أغفل أنه كان وزيراً للمياه وقتها، أي إن اختياره لهذا القصيدة الهزانية في الاستسقاء قد يكون اختياراً خاصاً وله طبيعة ساخرة تجعل من كتابته لقصيدة استسقاء حلاً شعرياً ساخراً لمشكلة قلة المياه الصالحة للزراعة والشرب وفقاً لرؤى وزارته المختصة بمثل هذه المشكلة! وما يعضد الحس الساخر في فكرة الإجابة عن السؤال أنه ناقضها لاحقاً عندما طلبت منه تعليقاً على سخرية محمد حسنين هيكل من منصبه الجديد يومها وزيراً للمياه في بلاد يفترض أنها صحراوية، والتي نسبها هيكل إلى وزير بريطاني لم يفصح عن اسمه، إذ استشاط القصيبي لحظتها بما يشبه الغضب، وهو نادراً ما يفعل ليقول: «لو كان أستاذنا الكبير هيكل يعرف أنه طبقاً للإحصائيات تعتبر مصر الشقيقة أفقر دولة مائياً في العالم لما اخترع ما اخترعه على لسان الوزير البريطاني (الشبح)، أما عن المناصب القديمة فالتاريخ لا يكرر نفسه، والوزارة الجديدة تحتاج إلى أنماط جديدة في التفكير، وأرجو أني لا أزال قادراً على التفكير بعقلية لا تحاول أن تعالج مشاكل اليوم والغد بحلول الأمس وما قبل الأمسِ»! وفي الجزء الأخير من تلك الإجابة ما يهدم فكرة القصيدة الهزانية كحل لمشكلة المياه، ويعضد فكرة الإعجاب الشعري القصيبي المحض بقارة النبط، وهو ما يجعلني أفكر أن ما نشره القصيبي في رواية «أبو شلاخ البرمائي» من قصائد نبطية وصفها بالركيكة وبما يتوافق مع معطيات الشخصية الروائية التي ترد القصائد على لسانها لا بد أنه غيض من فيض.. كان يفكر الشاعر في نشره بعد أن ينتهي من «زحام» النشر، لكنه رحل قبل أن يفعل!
مشاركة :