في مطلع حكم حافظ أسد (تسلط علينا بين 1970 - 2000م)، كان شخص مسيحي اسمه: سليمان إلياس يمتلك سيارة أجرة تتسع لتسعة ركاب، يقودها بين دمشق وبلدة الناصرية مروراً بمدينتنا. كان داء الرشوة في بداياته الخجولة التي رعاها النظام فيما بعد حتى صارت وباءً فظيعاً لا ينجو من جراثيمه إلا القليل القليل من الموظفين، وكان سليمان منضبطاً في كل ما يتعلق بسيارته، حرصاً على ألا يضطر إلى دفع رشوة لشرطة المرور.. في يوم من أواخر أيام شهر رمضان أوقفت دورية المرور سيارة سليمان بعد مغادرة دمشق.. تفحص الشرطي أوراق السيارة وسائقها فلم يعثر فيها على أي مأخذ يساعده في الابتزاز.. نظر إلى عدد الركاب فوجده نظامياً.. مع ذلك قال للسائق: «هات شو بيطلع من خاطرك» = يعني: ادفع ما تجود به نفسك.. قال سليمان: عندي أي مخالفة؟ قال الشرطي: لا، لكن هات عيدية!! قال السائق: أنا مسيحي!! فصرخ الشرطي في وجهه: «لا تِحْكِ بالطائفية ولاه» = لا تتكلم بالطائفية يا.... * * * هذه الواقعة التي عايشتُها وأعرف بطلها، توجز حقيقة النظام الذي أنشأه حافظ على أساس طائفي قبيح، أشد قبحاً ألف مرة من النظام الطائفي في لبنان.. فالمحاصصة الطائفية في لبنان معلنة وصريحة ومحددة المعالِم. أما في سوريا الأسد فالشعارات علمانية لكن الطائفة تسيطر - في الواقع - على جميع مفاصل القوة في الجيش وأجهزة الأمن والاقتصاد والإعلام والتعليم، فإذا اعترض أي إنسان ولو بصوت هامس فإنه يلقي بنفسه إلى التهلكة بتهمة «إثارة النعرات الطائفية»!! ولن يكون محظوظاً مثل رياض سيف المولود في دمشق (1946) والعصامي الذي أسس مصانع ألبسة متميزة غزا بها أسواق العالَم. تسلل سيف من أصغر ثقب يتركه النظام للمستقلين فنجح في انتخابات «مجلس الشعب» مرتين، واشتهر بجرأته في نقد الفساد المتفشي. في 23 من شهر أيار مايو 2001 نبش سيف ملف الهاتف الجوال (يسمونه في سوريا: الخليوي) في مجلس الشعب وقال بأن الصفقة التي فصَّلها بشار على مقاس ابن خاله رامي مخلوف تكبِّد الدولة خسائر قدرها 346 مليار ليرة سورية (7 مليارات دولار تقريباً في حينها)، ثم قدم دراسة مفصلة تحت عنوان «صفقة عقود الخليوي». واعتقل على خلفية ذلك بعد أن رُفعت عنه الحصانة النيابية وحكمت عليه محكمة الجنايات بالسجن خمس سنوات فقد اتهمته العصابة بتأجيج الطائفية -لأن توجيه نقد لمخلوف نعرة طائفية!! مع علمهم بأن رياض سيف علماني - ولفقوا له تهمة تهرب ضريبي إلى أن أفلسوه!! * * * وجريمة العائلة الأسدية أكبر مما تبدو عليه، لأن سوريا لم تكن تعرف داء الطائفية قبل تسلطهم على مقدراتها بالقوة العسكرية الانقلابية المتدثرة بثياب حزب البعث وشعارات الوحدة والحرية والاشتراكية! كانت دمشق المدينة ذات الطابع المُحَافظ جداً، تنتخب السياسي فارس الخوري (1873-1962) لعضوية البرلمان - وهو ابن أقلية داخل الأقلية فهو مسيحي بروتستانتي!!- هذا الرجل الذي حظي بشعبية عريضة في مجتمع تدين أكثريته الساحقة بالإسلام، تولى رئاسة الحكومة عدة مرات ورئاسة البرلمان ووزارة الأوقاف!! * * * وعندما اندلعت الثورة السورية الكبرى على الاستعمار الفرنسي (1925-1927) لم يجد السوريون غضاضة في أن يتولى قيادتها الزعيم الدرزي سلطان باشا الأطرش، ونسبة الدروز لا تتجاوز 1 % – لو كان المجتمع السوري طائفياً-.. ومن المفارقات أن حافظ أسد وصلاح جديد وأعوانهما الذين انقلبوا على قيادة البعث التاريخية في 23/ 2/ 1966م في بداية تأسيس الطائفية المُقَنَّعة، استفزوا قائد الثورة السورية الكبرى باعتقال عدد كبير من السياسيين وتسريح كبار الضباط الدروز، فأرسل إليهم برقية قال فيها: «أولادنا في السجون مضربين نحملكم مسؤولية النتائج. لقد اعتاد الجبل وما يزال أن يقوم بالثورات لطرد الخائن والمستعمر، ولكن شهامته تأبى عليه أن يوجه سلاحه ضد أخيه ويغدر ببني قومه. هذا هو الرادع الوحيد، نقتصر مبدئياً على التفاوض» - المصدر جريدة النهار اللبنانية 31/ 12/ 1966-. * * * ومن تجربتي الشخصية، أستحضر واقعة ذات دلالة قوية في هذا الموضوع.. كنتُ أعشق المطالعة منذ المرحلة الابتدائية، وقرأتُ كتاباً عن البطل السوري جول جمال (1932 - 1956) الذي التحق بالكلية البحرية في مصر، فلما وقع العدوان الثلاثي على مصر قام جول جمال بعملية بطولية، إذ تعمد أن يصدم بزورقه الطوربيد البارجة الفرنسية العملاقة (جان بار) وكانت فخر الأسطول الفرنسي فأغرقها. وربما كان عمري قريباً من سن الخمسين عندما عرفت - بالمصادفة – أن جول جمال مسيحي!! * * * وأوغلت العائلة الأسدية النتنة في فرض الطائفية على السوريين بالترهيب الوحشي، وصار كل موقع عسكري أو أمني مهم في يد علوي. طبعاً، بقي الغلاف الخادع بواجهات سنية صفيقة، ليس لها من الأمر شيء.. وقد لخَّصها السوريون بسخريتهم السوداء، فزعموا أن وفداً من أهالي حوران ذهب إلى حافظ أسد، يشكو إليه سوء أحوال محافظتهم والظلم الواقع على أبنائها في المناصب العليا ، فقال لهم: أنتم تجحدون المعروف.. رئيس الوزراء منكم (كان محمود الزعبي قبل تصفيته ثم الادعاء أنه انتحر) ووزير الخارجية منكم (كان فاروق الشرع) وفلان كذا وفلان.... هنا تجرأ أحدهم وقال : سيادة الرئيس أتأذن لي بالكلام وتعطيني الأمان.. قال: لك الأمان فقل ما عندك.. قال: تأخذ كل هؤلاء الطراطير وتعطينا موقع علي من العَلِيَّات (هم علويون ذوو مواقع حساسة واسم كل منهم علي: علي دوبا رئيس شعبة المخابرات العسكرية - علي حيدر قائد الوحدات الخاصة - علي الصالح قائد الدفاع الجوي - علي مصطفى قائد سلاح الإشارة)!!
مشاركة :