للناقد الألماني لِسِنْغ نظرية حول المقارنة بين فن الشعر والفنون التشكيلية وهي من نظريات هيغل أيضاً. فالشعر قادرعلى التقاط لمحات متعاقبة في الزمان والمكان، في حين أن النحت والرسم مثلاً، يعجزان عن ذلك إذ يقدِّمان تجسيداً هيكلياً جامداً لشيءٍ ما. لاحظ تصوير امرئ القيس للحصان وسرعته بشطر واحد من أبيات الشعر في معلقته المشهورة: (... مكر مفر مقبل مدبر معاً...) حيث صوّر الحركة ونقيضها في آن واحد من خلال كلمة «معاً» فلا يستطيع النحات أو الرسام أن يصورا تلك الحركة ونقيضها في آن واحد، بل سيجسدانها بحركة رشيقة واحدة جامدة ، للكرِّ، والفِّر. وتخيّل تصوير الأحدب لابن الرومي كما أبرزه العقاد في كتابه عنه: قصُرَتْ أخادعه وطال قذالُه فكأنه متربِّصٌ أن يُصفَعا وكأنما صُفِعَتْ قفاه مرّةً فأحسّ ثانية لها فتجمّعا فهي صورة جمعت التجسيد النحتي مع المشاعر والأحاسيس. والنحّات لن يقدم سوى نحت طيني جامد دون أحاسيس تنبَثُّ في المنحوت. وصف ابن الرومي نحت شعري فني، ونفسي. إنه شعر نحتي، أو نحت شعري، طينه اللغة، وإزميله الخيال الكلي المبدع. وتأمل وصف الخبّاز لابن الرومي كما حلله المازني في: حصاد الهشيم: إن أنسَ لا أنس خبازاً مرررت به يدحو الرقاقة وشْكَ اللمح بالبصرِ مابين رؤيتها في كفه كرةً وبين رؤيتها قوراء كالقمرِ إلا بمقدار ما تنداح دائرةٌ في لجّة الماء يُلقَى فيه بالحجرِ فهي صورة كلية واحدة في لقطة تجمع الزمان والمكان في نسق متكامل متعاقب لا ينفصلان. والرسام سيقدم عدة لوحات جامدة لتصوير جزئيات هذا الوصف الفني الرائع. وأنت في رسم عاصفة هوجاء سترسم أغصاناً محطمة، وأوراقاً تذروها الرياح، وربما غيوماً ملبدة في السماء... لكنك لن تستطيع رسم صوت العاصفة وصفير الرياح العاتية... لكن في الشعر تصور العاصفة من خلال الألفاظ والحروف الهامسة والجهرية الموحية بالصفير فتكاد تسمعه في أذنيك. اقرأ وصف البحتري للوحة معركة أنطاكية الصامتة بين الروم والفرس. ففيها من سحر الوصف الفني الشعري المتناغم مع طبيعة اللغة الشعرية، والصوت والحركة واللون... بحيث تكاد تسمع قعقعة السلاح، من صليل سيوف، وفحيح رماح، وأسهم منطلقة في الهواء، عبر صهيل الأحصنة. واقرأ وصفه لاصطكاك أنياب الذئب في ليلة باردة: يُقَضْقِضُ عُصْلاً في أسِنَّتِها الرّدى/ كَقَضْقَضة المقرور أرعَدَهُ البردُ اقرأ الفعل يقضقض مرات عدة. ومصدره مع كاف التشبيه: كقضقضة. وأنصت إلى تكرار الراء في: الرّدى- المقرور- البرد... فإنك تكاد تسمع اصطكاك أنياب الذئب في أذنيك! فأنّى للرسام أو النحات أن يصوِّر ذلك ؟ نستمع إلى السمفونية التاسعة، مثلاً لبيتهوفن، فيأخذنا الخيال مع الألحان إلى عالم سحري من الموسيقا... وكل مستمع يختار خياله... والمعنى الخاصَّ به. في سمفونية البطولة قد يسرح خيالك مع معانٍ أخرى ليس لها علاقة بالبطولة. لكن اقرأ وصف البطولة والفروسية في معلقة عنترة أو معركة عمورية لأبي تمام، أو معارك سيف الدولة كما وصفها المتنبي، فإن الخيال، عبر الصورة الفنية التي تلوِّن مخيلتك بأطيافها، وهناك المعاني، وطبيعة الألفاظ، والحروف الهامسة والجهرية، وجلجلة الوزن أو الإيقاع الشعري... كل ذلك سيُدخلك إلى عالم الفروسية والبطولة وساحة المعارك الخ. وأختم بهذه العبارة للإغريقي سيمونيدس: «الرسم شعر صامت، والشعر رسم ناطق». * شاعر وناقد سوري
مشاركة :