الاستمرار في التعويل على شعار كفاءة “الرأسمال البشري” أمر لم يعد يستقيم مع تدني التعليم العمومي ورعاية الدولة، وهي خسارة لا تستثني الشركاء الدوليين للديمقراطية الناشئة من المسؤولية المباشرة فيها.العرب طارق القيزاني [نُشر في 2017/10/29، العدد: 10796، ص(2)] الطبقة الوسطى في تونس في حالة مقاومة، فهي تتجه إلى خسارة آخر قلاعها التي طالما وجدت فيها متنفسا للإبقاء على توازنها المالي والاحتفاظ دائما بآفاق رحبة وفرص واعدة في سوق الشغل. فلقد ظل التعليم العمومي حتى وقت قريب في تونس وعلى مدى عقود طويلة، مفخرة دولة الاستقلال التي وضعت ثلث موازنتها منذ خمسينات القرن الماضي للاستثمار في صناعة رأسمال بشري يكون محركا لاقتصاد البلاد وبناء مؤسسات الدولة، في ظل شح الموارد الطاقية مقارنة بدول الجوار. وبشهادة التاريخ مكنت تلك الاستراتيجية التي ترافقت مع تعميم الخدمات الاجتماعية شبه المجانية، من تغيير ملامح المجتمع التونسي بتقليص نسبة الفقر وتوسيع قاعدة الطبقة الوسطى مع بناء إدارة صلبة واقتصاد ديناميكي، لم يخل في الواقع من هزات تخللتها تجارب مختلفة، من التعاضدية الاشتراكية في ستينات القرن الماضي ومن ثم الانتقال إلى مرحلة الانفتاح الاقتصادي في عقد السبعينات.الطريق ليس مفروشا بالورود لكن اليوم تحيل إكراهات مرحلة الانتقال السياسي منذ 2011، بالتوازي مع إصلاحات اقتصادية عميقة ومؤلمة تطالب بها المنظمات المالية الدولية المقرضة، إلى تغييرات جذرية لا ترتبط فقط بإعادة تعريف قسري لدور الدولة الراعية وأولوياتها المغايرة لدولة الاستقلال، ولكن أيضا بمستقبل الطبقة الوسطى وآفاقها في ظل التحولات الحالية. لا يقف الحال اليوم عند خسارة هذه الطبقة للكثير من المزايا الاجتماعية في قطاعات الصحة والخدمات والتعليم وغيرها بسبب تقلص التمويل العمومي ولكن الأمر الأكثر تعقيدا هو الكلفة المتزايدة للمعيشة غير المتجانسة مع الأجور المتدنية. يعترف وزير المالية نفسه بأن رواتب التونسيين وعلى الرغم من الزيادات التي عرفتها بعد الثورة منذ 2011، تظل لا تستجيب لمتطلبات الحياة اليومية، وهذا يتضارب مع دعوات صندوق النقد الداعي للتحكم أكثر في كتلة الرواتب وتجميد الزيادات، من بين الكثير من الإصلاحات الأخرى التي يطالب بها لسد العجز في موازنة الدولة. ربما لا مفر من مراجعة دور الدولة وإشراك القطاع الخاص أكثر فأكثر في تحمل أعباء الخدمات الاجتماعية في ظل الاستنزاف الحاد للمالية العمومية، لكن المراجعة لا تخلو في الواقع من المقامرة، إذ تخاطر الدولة بتوجهها إلى الخصخصة بضرب قاعدتها الإنتاجية والاستهلاكية معا ما لم تضع استراتيجية للحفاظ على التوازن المالي والمعيشي لطبقتها الوسطى، وهي التي كانت تعد قبل ثورة 2011 بحسب إحصاءات حكومية بأكثر من 80 بالمئة من النسيج الاجتماعي، وكانت مصدر دعاية وفخر للنظام السابق. ومع الارتفاع المستمر لكلفة المعيشة وزيادة الضرائب والأسعار في أغلب المواد والتخفيف المتوقع للدعم الحكومي، فإن المستقبل القريب لا ينبئ باستقرار اجتماعي لشريحة تضم بجانب عموم الموظفين، الآلاف من العمال والحرفيين والمزارعين والمهنيين المستقلين، ولا بمناخ ملائم للاستثمار والتنمية وإحداث فرص عمل في الجهات الداخلية المتململة. وعلى ذلك فإن الطريق لا تبدو أيضا مفروشة بالورود للآلاف من طالبي الشغل ومن خريجي الجامعات الذين يمثلون اليوم ثلث العاطلين من الشباب. وترسم الأرقام الحالية هامشا مما يمكن أن تشهده الديمقراطية الناشئة على المدى المتوسط. فحتى الآن تفيد الإحصاءات الرسمية بأن المدارس العمومية فتحت أبوابها هذا العام أمام نقص بواقع 16 ألف معلم دون أن يتم الدفع بمعوضين لهم بينما خسر القطاع الصحي على مدى ثلاث سنوات خلت 1800 من الكوادر الطبية التي اختارت الهجرة أو التحول نهائيا إلى القطاع الخاص. ويمكن توقع المزيد من الانحدار لخدمات القطاع العام مع طرح الدولة لخطط التسريح الاختياري للآلاف من الموظفين للحد من الأعباء المالية للخزينة العامة. في كل ذلك تطرح أجندة الإصلاحات التي يدعمها صندوق النقد الدولي أمام الحكومة، الكثير من الخيارات الصعبة والمهددة لما تبقى من مساحات التوازن المالي والمعيشي لدى الطبقة الوسطى. وهناك لوم كبير تلقي به النقابات والفئات العمالية المقاومة للسياسات الحكومية من انتهاجها لمقاربة ليست عادلة بين فئات الطبقة نفسها فساهمت بذلك بالمزيد من تفتيتها، وهي أنها أخفقت في إرساء سياسة ضريبية عادلة فسمحت، عن عجز أو عن قصد، بإثراء كبير للمهنيين الليبراليين (الأطباء والمحامين مثلا) فيما ضاعفت الضغوطات أكثر على الموظفين العموميين بشكل خاص. ومع ذلك لم تحسم الدولة أمرها بعد، كما لم تصدر قرارات طيلة سبع سنوات، بشأن مستقبل التعليم العمومي والقطاع الصحي بشكل خاص، وهما من القطاعات التي أبقت على الشراكة التاريخية بين الدولة والطبقة الوسطى، فلا هي وفرت التمويلات الكافية لهما ولا هي اتجهت إلى الخصخصة لإنقاذهما من الانهيار. وفي كل الحالات فإن قدرا كبيرا من الخسارة حاصل دون شك، وهو أن الاستمرار في التعويل على شعار كفاءة “الرأسمال البشري” أمر لم يعد يستقيم مع تدني التعليم العمومي ورعاية الدولة، وهي خسارة لا تستثني الشركاء الدوليين للديمقراطية الناشئة من المسؤولية المباشرة فيها. كاتب من تونسطارق القيزاني
مشاركة :