ارتبط عزيز المصرى بالألمان وجدانيًا وعقليًا لفترات طويلة من حياته. اقترب منهم فى اسطنبول، وسعى للعمل إلى جوارهم فى الحرب العالمية الأولى لمحاربة بريطانيا، وذلك بنصيحة من أمير الشعراء أحمد شوقى فى إسبانيا. ووصلت هذه العلاقة إلى ذروتها خلال الحرب العالمية الثانية. هنا نعود إلى زمن الحرب العالمية الأولى وقصة اتصال «عزيز» بالألمان. فى مدريد، وبعد المقابلة الفاترة فى السفارة الألمانية بعدة أسابيع، سعى إليه أكثر من مسؤول من السفارة.. ذهب عزيز ليجد ترحابًا شديداً. وقابله السفير وأخبره أن السلطات الألمانية تطلب سرعة سفره إلى هناك. وتكفل السفير بواسطة رجاله بإيصال «المصرى» أو توصيله إلى هناك. يقول عزيز المصرى فى حواره مع محمد عبدالحميد: «كانت رحلة شاقة، فقد ركبنا باخرة إسبانية من أحد الموانئ فى شمال إسبانيا، وسارت بنا فى خليج «بسكى» على امتداد السواحل الفرنسية، ولقد اختبأت داخل الباخرة طوال سيرها فى بحر المانش. كانت الأراضى الفرنسية على يمينى والإنجليزية على يسارى، واخترقنا مضيق دوفر وسرنا بمحاذاة الشواطئ البلجيكية والهولندية، ثم رست على الشاطئ الألمانى، ومن هناك ذهبنا إلى هامبورج ثم إلى برلين. ويحكى عزيز المصرى قصة استدعائه من إسبانيا إلى ألمانيا وقصة التحول فى المواقف «كان كمال أتاتورك فى زيارة ألمانيا، وتقابل مع المارشال (لوندروف) وأثناء الحديث أخبره المارشال أن مغامراً نصابًا مصريًا حضر إلى إسبانيا وأخبرنا عن طريق السفارة الألمانية هناك أنه كان فى أركان حرب الدولة العثمانية، وادعى أنه كان على خلاف مع أنور باشا، وقد طلب عرض خدماته العسكرية، وأبدى استعداده لقيادة مائة ألف جندى فى حربنا ضد الحلفاء.. وبصراحة شككنا فى نواياه ولم نحسن استقباله، وهو موجود الآن فى مدريد، وبلغنا أن الحكومة الإسبانية تبحث عنه للقبض عليه بإيعاز من الإنجليز. ويستكمل عزيز المصري: «طلب كمال أتاتورك اسم الضابط الذى تحدث عنه المارشال وانتفض واقفًا عندما سمع اسمى. مدحنى كثيراً. وقال المارشال لوندروف: ولكن أنور باشا حذرنا منه وأخبرنا أنه أحد عملاء الإنجليز. وقال أتاتورك: إن أى رجل يعاديه أنور باشا لهو رجل عظيم.. وعزيز المصرى على رأس هؤلاء العظماء. وطلب أتاتورك حضوري، وألح على المارشال أن يعاوننى ولا يدخر أى جهد فى تذليل أى عقبة أمامى فى الحياة داخل ألمانيا، وأخبره أيضًا أننى كنت من التلاميذ النجباء للجنرالات الألمان فى تركيا، ومدى حبى وعشقى لهم». ويتابع: «وصلت ألمانيا وذهبت لمقابلة المارشال لوندروف الذى أحسن استقبالى، وحكى لى القصة كاملة، وأبدى أسفه لكل ما حدث وأطلعه على مشوارى كله منذ غادرت اسطنبول بعد العفو عنى، وأيضًا ماذا فعلت مع الإنجليز وماذا فعلوا معى. وطلب منى المارشال أن أختار المكان الذى أراه مناسبًا حتى أعمل فيه، وأخبرنى أيضًا أن كمال أتاتورك طلب منى أن يعرض علىّ العودة مرة أخرى إلى تركيا، وأنه سيعمل على رد جميع حقوقى. شكرته وتركت اختيار العمل لحين التفكير فى ذلك الموضوع». ويتابع: «أخبرنى المارشال أن مكتبه مفتوح أمامى فى أى وقت. مضى على وجودى فى ألمانيا قرابة الثلاثة أشهر، وفى تلك الأثناء حضر إلى ألمانيا أنور باشا وزوج أخته طلعت باشا، وطلب منى طلعت باشا مقابلة أنور لأمر مهم، والحق أقول إننى لم أرغب أبداً فى لقاء ذلك الرجل الكاذب المخادع الذى كان وراء محاكمتى وتشريدى وتشريد جميع ضباط جمعية العهد، وهو الذى كان وراء جرائم السفارة جمال باشا فى سوريا، وأيضًا خلف كل المؤامرات والدسائس فى تركيا. وبالرغم من كل ذلك، أخبرنى أصدقائى الألمان أنه لا ضرر من هذا اللقاء، فهى فرصة لنرى فيم يفكر». ويواصل: «التقيت أنور باشا وزير الحرب التركى، هو الذى يسعى لاستقبالى فنحن على أرض ألمانيا المحايدة بالنسبة لى وله. وطلب منى أن أعود إلى تركيا حتى أعاونه فى خطته. كانت خطتى ذات وجهين: وجه مع الألمان والآخر مع الرؤساء وأخبرونى أنه يعد لى وزارة الحربية، وهو فى منصب آخر أكبر لم يخبرنى به ورفضت العرض. وفى يوم من الأيام وأنا جالس فى حجرتى بعد هذا اللقاء بعدة أشهر، جاءنى تليفون من وزارة الخارجية الألمانية يخبرنى فيه المتحدث أن أنور باشا قد قتل على حدود أفغانستان. واكتشفوا أنه كان عميلاً ذا وجهين: وجه للإنجليز والآخر للروس. وأنه كان يؤيد ضرب مؤخرة جيش كمال أتاتورك، ومساعداً لليونان على ضرب تركيا. وقد أرسل كمال أتاتورك أحد قواده المشهورين (كاظم قره بكير) واشتبك مع جيش أنور وهزمه، ولم يكن أمام أنور باشا سوى الهروب، وعبر القوقاز وبحر قزوين إلى تركستان، وهناك قتل وقطع رأسه.. وهكذا انتهت أسطورة هذا الرجل القبيح الذى خان وطنه وشرفه وجيشه والذى كان على قمة الفساد فى تركيا». يستكمل عزيز راويته عن رحلته فى ألمانيا والتى- كما قلت- نشرها محمد عبدالحميد فى كتابه «أبوالثائرين» ونشرها فى حلقات صحفية قبل ذلك. يقول عزيز: عشت فى ألمانيا، وعملت مدرسًا فى كلية أركان الحرب. كنت أدرس تجربتى فى حربى ضد البلغار وأسلوب حرب العصابات الذى ابتدعته وسط المناطق الجبلية ووسط الصحراء والغابات فى ليبيا فى حربى ضد الإيطاليين. وعشت أتجول فى أوروبا سنوات عديدة، والقلق ينهش أعصابى. كانت بى رغبة لأن أعود إلى مصر كما عاد إليها أمير الشعراء أحمد شوقى. وقد وافق رجوعه أصداء ثورة 1919 بقيادة الوطنى الكبير سعد زغلول، لكن الإنجليز كانوا لى بالمرصاد. لم يوافقوا على عودتى بعد انتهاء الحرب. وذات يوم وبينما كنت جالسًا فى البنسيون الذى كنت أقيم فيه بألمانيا، فوجئت بحافظ رمضان باشا وحمد الباسل باشا يدخلان البنسيون ويسألان عنى. كنت فى دهشة من أمرى حينما وجدتهما أمامى وقالا لى نحن نريدك فى مصر، وحكومة الوفد ليس لديها مانع من عودتى. قلت لهما: والإنجليز؟ إنهم يملكون قرار عودتى وللأسف ليس للوفد أى قرار إلا بإذن سلطات الاحتلال. قالا لى: نريدك قائداً للجيش المصرى. فقلت بتعجب: قائداً مرة واحدة. وهل يسمح الإنجليز بذلك. إن القيادة بين أيديهم، وأنا بالنسبة لهم شخصية غير مرغوب فيها على الإطلاق. وافترقنا، وكان الفراق صعبًا إلى أقصى حدود.. وواصلت حياة الغربة والاغتراب، حتى شاء الله أن أعود مرة أخرى إلى القاهرة بعد نفى استمر عشر سنوات. فى هذه الأثناء، ظهرت اتفاقية سايكس بيكو التى تم بموجبها تفتيت العالم العربى وتقسيمه بين النفوذ البريطانى والنفوذ الفرنسى، وكانت العراق بموجب الاتفاقية من نصيب بريطانيا حيث أقاموا هناك دولة عربية ملكها فيصل الأول الهاشمى، وأرسل إليه إخوانه فى جمعية العهد ليعيش وسطهم، وعلى الرغم من وجود أصدقائه هناك، مثل ياسين الهاشمى وطه الهاشمى وجميل المدفعى وحكمت سليمان وجعفر العسكرى، إلا أن الإنجليز كانت لهم اليد العليا هناك. ولم يتمكن عزيز من تقديم شىء جاد يليق مع شخصيته واستعداده.. وهناك عرضوا عليه تمثيل حكومة العراق لدى شركة البترول العراقية ولكنه رفضه. ويكتب محمد صبيح فى كتابه «بطل لا ننساه» أنه فى العراق، اقترن بسيدة أمريكية، تبادلا معًا الحب والوفاء. وكان أبوها من ملوك البترول فى بلاده وقد أغضبه أن تتزوج ابنته عربيًا مسلمًا، فحرمها من ثروته وميراثه، ولكن هذا الحرمان لم يؤثر عليها. ولا سيما بعد أن أنجبت من زوجها «عمر». فقد كان عزيز المصرى مفتونًا بشخصية عمر بن الخطاب. فى حوار معه منشور فى مجلة آخر ساعة عام 1964 يذكر أن اسم هذه الفتاة الأمريكية التى تزوجها «فرنسيس دريك» ويذكر فى الحوار أنها كانت طويلة وملابسها كانت تصل إلى قرب قدميها، ولكنها كانت مثقفة تحب الحياة التى اختارها «عزيز». ولذلك فقد سافرت معه كل بلاد العالم تقريبًا وإلى العراق وبلاد العجم وأفغانستان، وعند العودة إلى القاهرة تزوجا. ويقول عزيز: قبل زواجى منها كنت فى العراق، وهناك قابلت ياسين الهاشمى، وفاتحنى فى أمر ثورة العراق، ولكنى قلت له إن الثورة لابد أن تبدأ من القاهرة، فهى الوحيدة القادرة على إنارة الطريق إلى باقى الدول العربية، وهى القادرة على تحمل العبء الأكبر فى هذه الثورة الكبرى. ومن الغريب أن مهر عزيز المصرى- كما يذكر فى الحوار- كان ثلاث روبيات هندية.. أى بما يساوى 14 قرشًا، وكان قد رفض عرض ياسين الهاشمى- فى العراق بأن يدفع المهر ومؤخر الصداق ألف جنيه، كان ذلك فى 1923. وفى القاهرة عاش معها فى شقة بها مائدة صغيرة وأريكة عليها وسادتان كان يضعانها على الأرض ليناما عليها. وفى حوار آخر مع إنجى رشدى الأهرام، فإن «فرنسيس» صحبته إلى طهران حيث قابلا «بهلوى» قبل توليه العرش. فى نفس الحوار، يقول إن زوجته- السابقة- تعيش فى بلادها أمريكا، وكذلك ابنه الوحيد «عمر».
مشاركة :