كانت ثورة 1919 هى أول تحرك شعبى حقيقى يجمع كل مكونات النسيج المصرى بحثًا عن الاستقلال والحرية. صنع المصريون- سواءً أكانوا موظفين أو عمالًا أو شبابًا أو نساء أو أطفالًا- ثورة شعبية من أجل طرد الإنجليز. تراجعت النزعات الدينية وانتهى حلم الخلافة الإسلامية فى عقول أصحابها بانهيار الدولة العثمانية، ولم يجد المخلصون من أبناء الوطن عنوانًا أمامهم إلا العمل المشترك من أجل التحرر التام. فى هذه الأجواء، وبعد انتصار ملحوظ لسعد زغلول ورفاقه، عاد عزيز المصرى إلى مصر بعد نحو عشر سنوات من المنفى والتشرد فى أوروبا. عاد والقناعات مختلفة وسمعته رائعة فى عقل ووجدان الصفوة ابتداءً من سعد زغلول و«الوفد» وانتهاء بالملك فؤاد. يقول عزيز المصرى، فى حواره الممتد مع محمد عبدالحميد: «عندما نزلت من الباخرة فى الإسكندرية عام 1924، كان الشوق يؤرقنى ويشقينى، وكان الحب لبلدى مصر يسكن فى أعماقى ويطفو فوق السطح ممزوجًا بالحسرة والألم. كانت نسمات الهواء الرطب ترطب مشاعرى، وتهدئ من لوعة الفراق التى طالت بسبب الإنجليز، وعندما وصلت القاهرة كأنما فتحت أمامى أبواب الحياة والجنة والأمل». بعدها بشهور التقى عزيز المصرى بسعد زغلول فى منزله «بيت الأمة»، يقول ذهبت أنا وفتح الله بركات.. استغرقت الجلسة أكثر من ساعة، كان قد تقدمت به السن. يضع ساقًا على أخرى، وعصاه تحت إبطه ونظراته ثاقبة وحديثه يجذبك إليه، ولابد أن تطيل السمع لما يقول. وقال الكثير عن تطاحن الأحزاب وأن تلك هى فرصة الإنجليز لإحداث الانقسام بين كل حزب وآخر.. تحدث معى عن سنوات النفى التى قضيتها فى الخارج وأثنى على جهودى.. وجهادى. فى هذه الأثناء، كان عزيز يسكن أحد البنسيونات فى بداية شارع الأزهر بسبب خلاف مع أخته وأولادها على ملكية بيته وحديقته فى عين شمس بعد أن نقل ملكيتهما إلى أخته قبيل نفيه إلى إسبانيا. يقول: رفضت شقيقتى إعادة البيت والحديقة، ووافق على ذلك زوجها، وحاولت توسيط أهل الخير ولكن دون جدوى.. لذلك لم يكن أمامى سوى رفع قضية على شقيقتى ودخلنا فى منازعات قضائية استمرت قرابة عامين، وكان المحاميان اللذان يدافعان عن حقوقى هما مصطفى الشوربجى وحافظ رمضان. وفى نهاية الأمر حكمت المحكمة لصالحى، وتسلمت المنزل والحديقة التى بعت جزءًا منها على الفور للإنفاق على حياتى. خلال هذه الفترة، وخلال معيشته فى «البنسيون» تعرّف على الفتاة الأمريكية فرنسيس دريك التى تزوجها فيما بعد، كما سافرت معه إلى العراق وإيران. بعد ذلك بفترة وجيزة تشهد مسيرة عزيز المصرى نقلة جديدة، فى 5 ديسمبر عام 1928، نشرت صحيفة الأهرام خبراً رئيسيًا بعنوان: مدير لمدرسة البوليس. ومن ضمن الخبر.. وافق مجلس الوزراء على تعيين حضرة الأميرالاى عزيز المصرى بك مديراً لمدرسة البوليس. وكانت وظيفة مدير المدرسة قد خلت بإحالة شاغلها على المعاش، وهى من الوظائف المرتبة من الدرجة الثانية 90-1140 جنيهًا، وتقترح وزارة الداخلية بدء العمل فى أول ديسمبر 1921 وبإسناد الوظيفة إلى حضرة الأميرالاى عزيز على المصرى بك مع منحه ماهية قدرها 1020 جنيهًا فى السنة. ويستعرض الخبر مؤهلات «عزيز» وأماكن خدمته وبطولاته فى داخل مصر وخارجها. وفى 26 مايو 1929، تنشر الأهرام تقريراً قصيراً عن إصلاح مدرسة البوليس ووصفت الصحيفة فى عنوان آخر تقريرها بأنه «تقرير نفيس لمديرها» وجاء فيه وضع القائد المصرى الكبير عزيز بك على المصرى مدير مدرسة البوليس والإدارة تقريراً نفيسًا عن أوجه إصلاح المدرسة، وقدمه إلى حضرة صاحب الدولة وزير الداخلية، وقد تصفحنا التقرير فإذا هو برنامج جليل الشأن لإصلاح تلك المدرسة التى ارتفعت الشكوى عن عيوب نظامها القديم، وفى إصلاح مدرسة البوليس إصلاح للبوليس نفسه. والبوليس هو أقرب موظفى الحكومة إلى الجمهور، هو آلة الحكومة التنفيذية، فكل ما نرى من قوانين ولوائح وكل ما يصدر من أحكام يكون حبراً على ورق إذا لم ينفذ، ويكون تنفيذه خطراً مفسداً للنظام باعثًا على الفوضى وفقدان الثقة إذا سلم زمامه إلى أيدى الجهلة وذوى المآرب والشهوات. وإذا لم يرَ الجمهور رجال البوليس مثالًا للشهامة والاستقامة والنزاهة وطهارة الأيدى والنشاط والمثابرة والإنسانية لا يطمئن. بل لن يتوقف المجرمون عن إجرامهم والفاسدون عن فسادهم. لذا تقابل الاقتراحات الجامعة التى حولها تقرير مدير البوليس بالترحاب وتطلب إلى دولة وزير الداخلية وإلى وكيلها وكبار موظفيها أن يحلوها محلها من التمحيص. وأنقل هنا جزءًا من مذكرة عزيز المصرى لإصلاح مدرسة البوليس. أولاً: زيادة العناية بالثقافة العامة والتكوين العلمى بإصلاح المناهج والمكتبة والاتصال بالهيئات البوليسية. ثانياً: العناية بالتدريب العملى على الطرق الفنية والتعاليم اللازمة لعمل البوليس بإصلاح التدريب العسكرى وإضافة طرق التدريب الفنية الجديدة. ثالثًا: العناية بالرياضة البدنية بإدخال السباحة والمصارعة اليابانية. رابعًا: العناية من الوجهتين المادية والخلقية بالطلاب، ووضع أسس للتربية والأخلاق، بحيث تكون أساسًا للتقاليد الراقية فى المدرسة وفى البوليس تبعًا. ويبدأ عزيز فى تنفيذ منهجه وفى التدقيق فى اختيار الطلاب بعيداً عن الواسطة والمحسوبية. وتتعرض سياسات عزيز المصرى فى مدرسة البوليس إلى هجوم حاد من أحد نواب البرلمان وبأنه رجل عسكرى وليس رجل بوليس، فتخصص مساحة كبيرة لمساندة «عزيز» ومهاجمة النائب. يشرح محمد صبيح فى كتابه «بطل لا ننساه» جزءًا من ممارسات «عزيز» فى مدرسة البوليس ويقول «كان قرارًا غريبًا أن يتم اختيار عزيز المصرى مديراً للمدرسة، فهذا «المعهد» وضع له الإنجليز نظامًا غريبًا، فقد كان عليه أن يخرج أدوات القمع المصرية، التى يحكم بها الإنجليز البلاد. وكان على عزيز المصرى أن يدخل الهواء الطلق النقى يستنشقه الشباب المصرى الذين ستوكل لهم مهام صيانة الأمن فى مقبل الأيام. ويذكر «صبيح» نقلاً عن بعض تلاميذه أن «عزيز» مر على عنابر الطلبة، فوجدهم يضعون نقودهم وحاجياتهم الخاصة فى دواليب، على كل دولاب قفل يحتفظ الطالب بمفتاحه. فأمر بإزالة هذه الأقفال على الفور قائلاً: كيف تكونون رجال أمن فى المستقبل مسؤولين عن أرواح وأعراض وأموال الناس وأنتم منذ الصغر، يتشكك أحدكم فى صاحبه. فلما قيل له: ولكنهم يضعون نقودهم فى هذه الدواليب. أجاب: ولو.. فلما قيل له إنه يوجد غير الطلبة بعض الخدم.. قال: ولو، ولماذا لا يتعلمون الأمانة أيضًا. ولم تحدث حادثة سرقة واحدة طوال إدارة عزيز المصرى لمدرسة البوليس. فقد رفع شعار الأمانة، فآمن به الجميع. وفى أثناء الامتحان، مر بصالات الامتحان، فوجد مراقبى الطلبة يقفون بينهم فى يقظة وانتباه فسألهم: ماذا تعملون هنا؟.. قالوا نراقب الطلبة! فأجاب: ولماذا تراقبونهم؟ فأجابوا: حتى لا يغش أحد منهم. فما كان منه إلا أن أمر بإيقاف الامتحان، وقال للطلبة غداً يبدأ امتحانكم من جديد، وعلى كل طالب أن يحضر كتاب المادة أو المواد معه، ويضعها أمامه، ويجيب عن الأسئلة، دون أن يفتح الكتاب.. ولن يكون عليكم مراقبون منذ الغد! ونجحت هذه التجربة نجاحًا باهراً. وأنصف طالبًا متفوقًا فى رياضة الجودو أهانه ثلاثة ضباط إنجليز فى «الترام» بعد أن ألقوا طربوشه على الأرض فأوسعهم ضربًا، وأجبر الضباط على الاعتذار له، ورقاه إلى رتبة «أمباشى» ومنحه 75 قرشًا كل شهر. وحدث فى عهده كما يذكر «صبيح» تجاوز ما كان يسمى «كشوف التوصية» فى القبول. «وجرت العادة أن يحضر «رسل» باشا حكمدار العاصمة الإنجليزى، ومعه قائمة ويتولى هو اختيار أربعين طالبًا، ويُبقى للمدير وأعوانه العشرين الباقين. جلس عزيز المصرى يشاهد رسل باشا وهو يقوم بمهمته التقليدية وأهالى الطلبة يقفون عن بعد يشاهدون ما يتم. فهذا ابن فلان، وذاك ابن علان، وصاحب الرأى هو أكثر الناس رهبة فى مصر إنه الحكمدار رسل باشا. قام عزيز صامتا، وذهب إلى غرفته، دون أن يقول شيئًا. فأدرك أعضاء اللجنة وعلى رأسهم رسل باشا. فقال لهم: إنه لا علاقة لأحد خارج المدرسة باختيار الطلاب. فأنا المسؤول عن تعليمهم، فيجب أن يتم اختيارهم وفق قواعد معينة. وبعد حديث طويل، رضى «رسل» تفاديًا من أزمة مؤكدة، أن يتركه يخرج عن المألوف. فعاد وأبقى الأربعين الذين اختارهم «رسل» فى مكانهم. ثم طلب من معلمى المدرسة أن يأخذوا الباقين عند خط معين، ثم يطلبوا منهم التسابق، ويحضروا من الستين الأوائل. وما إن تم هذا حتى هتف الأهالى من أعماقهم لعزيز. وقد شحب وجه رسل باشا، ولم يحر جوابا. وكل ما استطاع أن يفعله هو التشفع لواحد فقط من الأربعين الموصى بهم، فقبل عزيز شفاعته. وكان من أهم مبتكراته فى مدرسة البوليس إدخال الكلاب البوليسية والحمام الزاجل والتصوير، كما أدخل المصارعة اليابانية. كل هذه الإنجازات والسمعة الجيدة، لفتت نظر الملك فؤاد إلى مدرسة البوليس وإلى عزيز المصرى. فطلب زيارة المدرسة، وكان فى نيته منصب آخر مهم ورفيع للغاية من أجل عزيز».
مشاركة :