آيات في الآيات (9): «فلنحيينّه حياة طيبة»

  • 5/27/2018
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

يتساءل الشاعر الإنجليزي«إليوت» بمرارة عن الحياة التي أضعناها بالعيش، من فكر هذا الشاعر الفيلسوف مُشاركًا إياها عين السؤال، وأبدأ قولي متسائلاً مثله عن مغزى قول الله «حياة طيبة» وتبعها عديد من الأسئلة جالت في الخاطر ولم تهدأ النفس إلا بتتبع هذا الأمر عند العلماء الذين لم يُضيعوا الحياة بالعيش، كيف تكون تلك الحياة الطيبة؟ وما الفرق بينها وبين المعيشة؟ وما الحكمة من التفرقة بينهما؟ وما هي الرسالة التي يجب أن نبحث عنها في ثنايا هذه الآية الكريمة؟ والبحث ذكره الله حتى كاد يكون فرضًا، لما فيه من الخير العميم على الفرد المسلم، حين يشخص بعين عقله إلى ما بعد السطح والظاهر في القرآن الكريم لعلنا نجد في البحث ما ينشلنا من براثن العيش. نُقدم الكلام على المعيشة والتي بحسب اللغة العربية تعني هي الحياة المُختصة بالحيوان وهي ما يُعاش به وهي جمع معايش كما جاء في التنزيل الحكيم «وجعلنا لكم فيها معايش» بمعنى وضعنا لكم أسباب البقاء والاستمرار، ويكرر الذكر الحكيم قريبًا من هذا المعنى بقوله «وقسمنا بينهم معيشتهم» وتلك من موجبات رحمة الله أنه تكفل برزق المخلوقات بالمعنى الشامل للكلمة وليس الإنسان وحده، وطالما أن حديثنا مُنصب على الإنسان ذي الخصوصية الخاصة منذ تكريمه بنفخ الروح فيه، وإسناد الخلافة له بعد هذا التكريم «النفخ»، فإن الله رب الناس ومن هذا المُنطلق تحديدًا «الربوبية» أوجد أسباب العيش على هذه الأرض للإنسان مهما كان جنسه ومعتقده ولو كفر برب الناس، وهذا أعظم تجلي للرحمة المنبثقة من الربوبية. وبالنظر إلى آيات بعينها من سورة طه والخطاب موجه إلى آدم «فقلنا يا آدم إن هذا عدولك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى* إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى* وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى» كل ما ذُكر هو من مستلزمات المعيشة لا علاقة له بالحياة من قريب أو بعيد، والمعيشة بمعطياتها السابقة المذكورة في الآية تستوجب التعب والجُهد لتحصيل ما تقوم عليه المعيشة، ثم ماذا بعد ذلك؟ وهذا هو السؤال المُتضمن بين منحيات المعيشة وتعرجاتها، ما بعده هو الحياة. الحياة هي أعم من المعيشة، وتُستعمل لفظة الحياة في مُحكم التنزيل فيما وراء العيش ومتطلباته وهي ذات ميزة إنسانية راقية حضارية أخلاقية خالصة «من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما عملوا» العمل الصالح من دون تخصيص لأنه من المُتغيرات بحسب الزمان والمكان ولم يقل الأفعال الصالحة بحيث إن الفعل يكون معرفًا ومُحددًا بخلاف العمل الذي يشتمل على أفعال لا حصر لها تنضوي كلها مهما بلغت تحت مظلة «الصالح»، وهذا يشمل العمل اللازم والمُتعدي العِبادي بمعنى التقوى الفردية والتقوى الاجتماعية وهي التي يُقصد بها منظومة الأخلاق والقِيم التي تُظلل المجتمع بسحابة الأمن والطمأنينة، وتقوم التقوى الفردية «العِبادية» والتقوى الاجتماعية على الإيمان بالله عز وجل، فالرد الإلهي هو الحياة الطيبة وليس المعيشة الطيبة لم نلحظ أي مُعطى من مُعطيات العيش في هذه الآية لأنه يكون بالضرورة تحصيل حاصل ودور الإنسان الخليفة يكون ويتجلى فيما بعد أسباب العيش. والحياة تُستعمل في القرآن الكريم بمعنى الحياة المعنوية مُقابل الضلال «أفمن كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زُين للكافرين ما كانوا يعملون» أين الطعام في هذه الآية وأين الشراب واللباس والمساكن!! لا شيء من ذلك هناك مقارنة صادمة ومُرعبة بين موت وحياة وليس فيها أي إشارة إلى أسباب العيش حتى نحظى بالحياة والتي خلافها هو الموت كما يتضح من الآية الكريمة، لهذا يجب أن تقوى إرادة الحياة ويمكن لها ذلك وتزداد عمقًا وسِعة بالتأمل والكفاح الذهني المُستمر والإيمان الذي يرتكز على إثبات الحياة وليس المعيشة مهما كلف الأمر، حياة الحضارة الغربية وبلسان فلاسفتها هي نوع من الموت الحي، حركة بلا حياة وكأني بهم يبحثون عن معنى الآية السابقة، ولسان حالهم ومقالهم وبعد مشوار علمي طويل وشاق يقول إنه لا حياة بالعلم فقط فلا بد من الإيمان المُنتج الأول للأخلاق حتى تنتصب الحياة على أعمدة قوية، أي عين على الأرض وعمارتها وعين على السماء والتسليم لمن بناها، وهو الحي القيوم.. ألم يسترع انتباهنا أن الله خص نفسه باسم الحي. في الختام يحضرني قول بل صرخة أم أيمن مولاة الرسول عليه الصلاة والسلام يوم وفاة عمر بن الخطاب قائلة اليوم وَهَى الإسلام، هذه السيدة تمتلك رؤية بعيدة الأُفق، وهى الإسلام لأنه كان قد وفّر لهم أسباب العيش ومارسوا الحياة كما أرادها الله في عهده وأخص خصوصيات تلك الحياة العدل المُولد للأمن والطمأنينة التي سادت أرجاء الدولة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها.. فهلا اقتدينا في هذا الشهر الفضيل بمن سبقونا وأقمنا الحياة فيما بيننا بالالتفات إلى فقراء المسلمين والناس المُحيطين بنا. عاطف الصبيحي

مشاركة :