قصته تواردت إلى أسماعنا عبر الأجيال بانطباع عن راهب خارق القدرات ومنغمس في الملذات, ما جعل اسمه ويعني الفاجر, نموذجا لإغواء الاستقواء بملكات فريدة جعلته غير قابل للاستغناء قيصر نيقولا الثاني عنه رغم مفاسده و سيطرته علي قرارات الحكم, وحتي اغتياله كان صعبا ومحيرا. حتي قيل عنه إنه تجسيد للشيطان.رأينا في تاريخ مصر أن التطرف الديني حرق مكتبة الاسكندرية بوصفها هرطقة, وآخر حضارة العالم آلاف السنين, وإنه في السنوات الأخيرة كاد أن يعصف بالدولة المصرية وفق ما قال إبن رشد, انه إذا أردت إقناع البسطاء, غلف دعواك بغلاف ديني,فلا شئ جديد علي وجه البسيطة والتاريخ يستمر في إعادة دروسه حتي تستوعبها كل الأجيال. لكن قصة راسبوتين بها مزيد من الدروس.ظهرت لدى راسبوتين في طفولته رؤى مستمرة عن القوى الإلهية وقدرات الشفاء الخارقة، فكان يكفي أن يلمس حصانا ليشفي, و سماه الناس راسبوتين لعلاقاته الجنسية الفاضحة , بل حتي أن رهبنته بدأت في سن الثلاثين حيث لاذ بأحد الأديرة بعد سرقة وهروب.تاثرا بتجربته الروحية جاب راسبوتين أنحاء روسيا و خارجها حتي وقع تحت تاثير طائفة متطرفة تسمي خاليستي, وتنزع إلى الجلد والممارسات الجنسية، ولعل سمة الجمع الشاذ بين الورع والأفعال الجنسية غير الشرعية وخاصة الفاضح منها هي التي شكلت القاعدة التي ارتكزت عليها ممارسات راسبوتين الدينية فيما بعد، فلم تفارقه أبدا فكرة أن الفرد يمكن أن يصبح أكثر قربا من الله إذا ارتكب عمدا ذنبا شهوانيا ثم تاب توبة نصوحا.بحلول عام 1903م وصل إلى سان بطرسبرج كلام عن قوى روحية قادمة من سيبريا ذات عيون وحشية مضيئة ونظرة مجنونة، وبدا أن راسبوتين كان قد حدد موعدا لدخوله المجتمع الراقي في الوقت المناسب، وقد ساهم في ذلك أن الطبقة الأرستقراطية كانت مولعة بمسائل السحر والتنجيم وكانت عمليات تحضير الأرواح أمرا مألوفا. فقدموه إلي الأسرة المالكة, التي كان لها في الماضي تقليد استقبال الرجال المقدسين من أجل مناشدة تدخلهم بعدة طرق، خاصة تلك التي تؤمن مولد ذكر يرث عرش روسيا.وبنجاحه المعهود مع النساءو الشابات ترك راسبوتين انطباعا عميقا لدى الإمبراطورة ألكسندرا بقدراته بعد أن أشفي وريث العرش نسبيا من مرض سيولة و نزيف الدم المتوارث في الأسرة, ولم يمض وقت طويل منذ أثبت راسبوتين قوته الخارقة للأكسندرا حتى أصبح مستشارها الشخصي المؤتمن على أسرارها، يزورها في القصر في موعد أسبوعي محدد. وتقول إحدى النظريات المتعلقة بقدرة راسبوتين على وقف النزيف الذي أصيب به أليكسيس، ابن القيصر، بأنه استخدم التنويم المغناطيسي لإبطاء النبض، ومن ثم تقليل القوة التي تدفع الدم إلى الدوران في جسده.زاد نفوذ راسبوتين في بلاط القيصر نيقولا الثاني , وأزاح و عاقب كل من وقف في طريقه و تدخل في قرارت سياسية كحث القيصر ألا يحارب العثمانيين في البلقان , و جذب أنصارا أقنعهم بجاذبيته بإرتكاب الخطيئة من أجل التطهر من الأثام, كما تزايد أعداؤه, إذ رآه كثيرون خارج حدود البلاط يحيا حياة السُكر والعربدة ، وغالبا ما يكون بصحبة العاهرات، وحين علم مسؤولون سياسيون كبار بهذه الشائعات كلفوا شرطة سرية بتعقبه.تضايقت الكنيسة من سعيه لمنع تدخل روسيا في البلقان و من تجاوزاته ,فإتهمته بأنه تجسيد للشيطان, و حاولوا ضربه و قتله بطرق عدة حتي أصيب و عولج جراحيا.رغم محاولاته الابتعاد عن الصراع بعد الإصابة حذر القيصر من مغبات محاربة المانيا, لكن القيصر نيقولا كان يحشد قواته استعدادا للحرب العالمية الأولى التي جلبت كارثة على وطنه، حيث فقد أكثر من أربع ملايين روسي أرواحهم، وبالعودة إلى سان بطرسبرج ومع غياب القيصر استطاع راسبوتين اكتساب المزيد والمزيد من القوى السياسية وساهم في تعيين وطرد الوزراء ، والسيطرة على قرارات حكومة روسيا داخليًا ، لأنَّه منشغلٌ بأمور الحرب ..وتم طرد الأشخاص المعارضين لراسبوتين ؛ وبدأ تقريب الموالين له وتعيينهم في أخطر المناصب, حتي اشيع أنه يسعي مع زوجة القيصر لعقد إتفاق سري مع ألمانيا, و سميت سان بطرسبرج العاصمة بمدينة إبليس.كما تنبأ راسبوتين بويلات محاربة المانيا تنبأ بقتله عام 1916,و أنه لن يبقي خلال عامين أحد من الأسرة الملكية , و هو ما حدث بالثورة البلشفية. و بالفعل تكاتفت القوي الوطنية المعارضة لسيطرته و توجهاته و فساده علي قتلة بمحاولات مستمرة بعد إستدراجه جنسيا بدءا من استعمال سم السيانيد الفتاك, و لما قاومه ضربوه و أطلقوا الرصاص عليه ثم القوه في نهر متجمد, و يقال إنه لم يتاثر بالسم لإعتياده تجرع كميات قليلة منه لوقف تأثير تسميم توقعه, و ان الحامض المعدي و الخمر منعا التأثير القاتل , و أن الرصاص المستخدم كان من نوع بريطاني غير موجود في روسيا لأن المخابرات البريطانية إستاءت من محاولته حث قيصر روسيا علي عقد سلام مع المانيا. و بعد مقتله راي الفلاحون ان الارستقراطيين إغتالوا نصيرهم, و تم قتل كل أسرة رومانوف كما توقع.هذه الحكاية توضح كيف أن هناك بالفعل من لديهم قدرات خارقة تمكنهم من الإشفاء و التنبؤ و التأثير, و كيف أن هناك من يستغلها بقناع ديني لمطامع سياسية و غريزية بروح شيطانية تلون الأعمال علي غير حقيقتها, و كيف أن حتي في الأسر الحاكمة هناك من يخضعون لإغراء استخدام هذه القدرات لصالحهم, لكن الأمر ينتهي بهم الي الخضوع لسيطرتها عليهم و الإضرار ببلدهم و شعبهم.فهناك توازن حرج مطلوب لا يسهل علي كثيرين إدراكه, فإما ينكرون تماما أية قدرات خارقة فيخسرون فائدتها أو يخشونها إن صدقوا, أو أن يقعوا بتغييب العقل تحت سيطرة من لا يستحقون الثقة, فيدمنون الخضوع لهم. فالرسالة هي أن إعقلها و توكل, ثق و لكن تثبت, إجعل العقل سيدك, لكن تحلي بالأمان و الموضوعية و النزاهة الكافية للتحري و التعلم, عش بفصي الدماغ ,المنطقي العملي و الحدسي المتفتح ,في توازن يتثبت بيقظة من الغيبيات, و إجعل نفسك دوما قادرا علي الإختيار أو التراجع وفقما يثبت.بادر, لكن كن دوما الطرف الفاعل , و ليس المفعول به.
مشاركة :