سألها ضابط المرور عن رخصة القيادة وأوراق سيارتها وعن سبب تجاوزها السرعة القانونية على الطريق الدولى السريع إلى بودابست بعد أن لاحظ من الرخصة أن سنها تجاوز الثمانين منذ أعوام، ثم تركها لحالها حينما روت أنها تريد اللحاق بحفل الموسيقى الكلاسيكية فى العاصمة بعد يوم طويل قضته فى ترتيب المنزل وإزالة الجليد من الحديقة وقضاء مشتروات الأسبوع، فضلا عن استضافة أصدقاء من قريتها بمنزلها على حفل شاى غادروه متأخرين. صرامة الضابط لم تمنعه من مسامحتها تقديرا لحيويتها ودوافعها، عملت السيدة روز مدرسة فى مقتبل حياتها تكرس إيمانها بالمثاليات من خلال قدوة تقدمها لطلابها، لها مبادئ ذكتها ثقافة رفيعة ومنحتها دوافع وطاقة ثبتت أقدامها فى حياة كفاح، التقت فى بدايتها بشريك العمر، محاسب أضافت روحه المرحة وحبه للحياة مزيدا من الحيوية على قيم مشتركة أعانتهما معا على مواجهة الصعوبات. حين اقتحمت جيوش النازى المجر، جندت إجبارا بعضا من شبابها دون سن العشرين، كان الزوج منهم، نشأ فى المجر حتى أصبح أسيرا لدى الحلفاء فى معسكر فى بلجيكا التى تقبلت الأسرى كلاجئين بشرط العمل المضنى فى مناجمها، سنوات شاقة أمضى منها أوقاتا طوالا تحت الأرض، فآثر العودة إلى وطنه ليكمل دراسته بعد أن صقلته المعاناة والعمل محاسبا، ثم يتعرض أحيانا للاعتقال لشكوك حكومية دافعها الأساسى ماضيه العسكرى والعيش فى بلد حر لأعوام دون أن تعفو عنه السلطات أو تحتويه تقديرا لصغر سنه وتجربته والأشغال الشاقة الاضطرارية.حياة مضطربة غير آمنة تواجه الزوجين فى مقتبل العمر، حتى قامت ثورة 1956 فى المجر ضد الحكم الشيوعى وفتحت سلطاتها الحدود مع الغرب، فجاءته مكالمة هاتفية من صديق من بلجيكا يعرض عليه المساعدة فى توطينه بها كلاجئ سياسى إذا أسرع بالسفر، لم يكن هناك الكثير مما يمكن أن يفتقده فى المجر إذا رحل، وكانت الهجرة تعبيرا عن أمل يستحق مخاطرة محسوبة تعينه عليها صلابة جلبتها التجربة ومثل تستحق العناء والمثابرة. فى الوطن الجديد لا بأس من البدء من الصغر دون اعتبار لمؤهلات، فالعمل اليدوى يحظى باحترام والجميع متساوون أمام القانون. بدأ عاملا فى محطة وقود أصبح بالوقت مديرها ثم مالكها، وعملت السيدة روز ممرضة فتوفرت للزوجين حياة تكفل الأساسيات، بل وتتيح لروز فرصة تقديم الخدمة والرعاية والمحبة والمثل، وأنجب الزوجان ثلاثة أطفال بثا فيهم القيم المشتركة وضرورة الكفاح من أجلها سعيا للنجاح واحترام الذات حتى أكملوا تعليمهم العالى، ودفع الطموح أحدهم للهجرة لكندا والعمل فى التدريس الجامعى بعد أن اختبر أفكاره وأولوياته ومعتقداته من خلال سياحة الشباب لبلدان عديدة. اطمأن الوالدان على مستقبل الأبناء، ومع انتهاء عهد الشيوعية راودتهما أحلام الشباب من جديد بعد أن تعدى العمر السبعين، العودة إلى الوطن الحر والعيش فى منزل ريفى جميل فى أحضان دفء مشاعر مواطنيهم وحياة القرية الهادئة الأليفة، الحياة الآمنة دون تسلط ومخاوف، ولكن القدر لم يمهل الزوج وقتا للاستمتاع بحلم حياته فتوفى بعد العودة بعامين، لتبقى الخالة "موكى" كما يحب أن يسميها أصدقاء الدراسة فى لقاءاتهم السنوية تنعم بوحدتها، كشخصية مستقلة واثقة وقديرة، تحب القيم والحياة والثقافة، وتعيش فى تناغم مع قريتها، يناديها الجيران بالخالة تقديرا لحكمتها وسنها ومودتها وألفتها، تحرص على الاعتدال فى المأكل والجهد وتتمتع بنشاط جسمانى وعقلى ملحوظ، لا تريد كثيرا من الآخرين والحياة، فبخلاف زيارات موسمية من أبنائها المقيمين فى دول أخرى، تملؤها الحياة النشطة والمشاعر الدافئة واحترام الذات وسلام النفس بما يكفيها من سعادة واستغناء.
مشاركة :