د. هادي التونسي يكتب: التبصر بالذات

  • 8/26/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

هل تستطيع تغيير رأيك في موضوع ما أو إدراك عيوبك؟ هل يمكنك التعايش مع الرأي الآخر في سلام أو تجاهل ما لا طائل من مناقشته؟ هل تعتقد أن الحقيقة مطلقة وأنك تملكها أم تعتقد أنها نسبية؟ هل تتمسك بالتقاليد أم تراجع ما لا يلائم تطور الحال؟ هل تملك الأمان للإحساس بخطئك من دون أن تهتز ثقتك بنفسك، وأن تتداركه، وتعترف به، وتسامح نفسك، وتطورها بالألم البناء؛ لتكون أكثر قوة وتأثيرًا ونضجا وصفاء وسعادة؟.كيف يمكن أن تكون حياتنا لو لم نتعلم، وكيف نشعر بسلام نفسي ونحن ننكر عيوبنا، وما تأثير ذلك على علاقاتنا بالآخرين ونظرة الناس إلينا؟ هل تعتقد أن الآخرين يرونك مثلما ترى نفسك؟ وهل يمكنك النظر إلي تناقضات ما تقوله وما تفعله إذا انغمست باندفاع في الدفاع عن وجهة نظر دون تبصر ذاتي، لأن ما تريده هو الانتصار لتضخيم الأنا وتأكيد الذات؟ هل يحترمك الآخرون إذا لم تحترمهم قولًا وعملًا؟ هل تجيد تمالك النفس واختيار انفعالاتك وتصرفاتك بمسئولية، أم تندفع وتندم في غير وقت وبلا طائل، ثم تتكرر تلك الحلقة المفرغة في ظروف أخري؟.ذكرتني تلك التساؤلات بلباقة ولطف وحكمة وزير الخارجية الراحل الأسبق د. بطرس غالي، حينما أعلن رغبته في الترشيح لولاية ثانية كأمين عام للأمم المتحدة، وسألته صحفية في مؤتمر صحفي عن السبب في تراجعه عما قاله قبل الولاية الأولي أنها ستكون الوحيدة، فأجاب بأنه فقط الأغبياء لا يغيرون مواقفهم، وضجت القاعة بالضحك لسرعة بديهته وتلقائيته ومهارته في تحويل سؤال محرج إلي إجابة حكيمة تثير الإعجاب، وأعجبني ما استنتجته مما أعرفه عنه من ثبات انفعالي وتمالك النفس واستبصار ذاتي حكيم؛ فنحن نحتاج إلي الكثير من ذلك ومن القدرة علي بناء التوافق النفسي والمجتمعي.علي المستوي الفردي لو كنت تؤمن بأن الحياة مدرسة لتطوير النفس والروح، وأن القوة الحقيقية هي في تمالك النفس وليس التحكم في الآخرين وفرض الآراء، فلو كنت حقا علي يقين من رأيك فماذا يضيرك أن يكون للآخرين ما يخالفه؟ لماذا تتمسك بفرضه وتريد إعجاب الآخرين أن لم تكن لديك شكوك لاواعية فيه أو في نفسك؟ وأن عبر آخرون عن الدعم فهل ذلك يكفي وهل حقا تنتفي اعتبارات المجاملة والمصالح وراء ذلك الدعم؟ هل لديك من الموضوعية والنزاهة والتجرد ما يكفي لكبح الاندفاع والنوازع الشخصية وللبدء في مراجعة المفاهيم والآراء؟أعرف أن الأمر شاق، وأن التفكير العلمي الناقد حتي لو طالبنا به مجتمعيًا قد يصعب أحيانا تطبيقه علي النفس، أعرف أننا مجتمع محافظ بشكل متزايد منذ أحقاب، يتمسك بالتقاليد، ولا يحبذ التجديد، وتنتشر بيننا الشخصيات الدفاعية، وكأن الدفاع عن الرأي دفاع عن كيان الفرد، لكننا أيضا نعرف أننا لا نستطيع أن نصمد في هذا العالم إن لم نتطور، ونكون أكثر رغبة في التعلم والتقدم وبناء دولة ديمقراطية مدنية، تحترم حرية الفكر والتعبير والإبداع.وعلي المستوي الوطني والقومي، ورغم ما درسناه من وحدة أو تشابه الثقافة والعرق واللغة والدين والتاريخ والجوار بين الدول العربية وإلي حد ما مع دول ما يسمي بالشرق الأوسط ذات الأغلبية المسلمة، انظر إلي حالنا من فتن واستقطاب وطائفية وصراعات مسلحة، وقد تعزو ذلك إلي مخططات أجنبية، وسياسة فرق تسد، وقد يكون ذلك أيضا صحيحا، لكنه لا ينفي مسئوليتنا، ولم يكن لينجح لو أدركت قوى خارجية أننا نستطيع التعايش مع المختلف، ونستطيع بناء التوافق علي الصالح المشترك، ونستطيع بناء الثقة والالتزام فيما بيننا. والمثال متاح، فالاتحاد الأوروبي جمع دولا طالما تحاربت وثقافات ومذاهب ولغات متباينة، لكن دوله عرفت كيف تبني وحدتها علي أسس المصلحة الاقتصادية والتزام القوي الحزبية باختيارات شعبية ديمقراطية وبالتدرج في البناء المؤسسي؛ هم يختلفون لكن لا يتحاربون، ويتعايشون مع الاختلافات والمنافسة، وفي النهاية يتضامنون، ويعرفون أننا لا نقدر علي هذا وفق طبيعة مجتمعاتنا وثقافتنا وشخصياتنا علي الأغلب، فنظل نتعلل بالمخططات الأجنبية، وكأنها تعفينا من التخلص من الأسباب التي أنجحتها، بل انظر إلي تجربة الأمن والتعاون الأوروبي وميثاق هلسنكي وقت الحرب الباردة بين الكتلتين الشرقية والغربية، وحيث لم تحدث حرب نووية بينهما. فهل نحن قادرون علي مستوي الدول الإسلامية علي منع الحروب فيما بيننا وإدارة الصراع سلمًا؟ أم سنظل نستعين بالأجانب ضد بعضنا البعض، ونستنزف الموارد في استيراد السلاح ومشروعات إعادة البناء ويباع البترول رخيصا للسداد بينما تذهب عقولنا واستثماراتنا إلي الخارج طلبا للأمان، ذلك الأمان الذي استطاعت قوي أجنبية متنافسة توفيره والإثراء علي حسابنا؟.حقا الأوضاع صعبة والمسيرة شاقة، لكنها ليست فقط سياسية واقتصادية، لكن أيضا ثقافية وفكرية ونفسية؛ فلنصلح من أنفسنا لو أردنا لأوطاننا السلامة والازدهار ولشعوبنا التعايش في تقدم وسلام.

مشاركة :