أصبح أمامنا في الفترة المبكرة من عقد حكم السادات (1971-1981) مشهد واسع وفضاء مفتوح ومتهاون ومتواطئ من السلطة السياسية في مصر مع الإخوان والجماعات الإسلامية بكل تشظّياتها وفروعها، والتي غالبيتها انبثقت من رحم تنظيم الإخوان، حيث وجدت تلك الجماعات الشابة في الجامعات والتي كانت تميل بكل وضوح لاستعمال العنف إزاء المجتمع «الكافر والجاهلي!». بعد موجة التكفير للمجتمع بات هناك كابوس من داخل التيارات الدينية الجديدة يربك لعبة الإخوان في الساحة المصرية والعربية والإسلامية باعتباره ممثلاً للإسلام «المعتدل!» في مواجهة مرحلة معروفة بمرحلة بن لادن وولادة تنظيم القاعدة، وبين نقيضين لحالة التوجه نحو الدعوية والتثقيف والمواجهة السلمية والتسلل بهدوء لمواقع السلطة ومفاتيحها وبين حالة استعمال العنف والتكفير لتقويم الحاكم الذي لا يحكم بشرع الله. تلك الثقافة المستمدة من مؤثرات سيد قطب وحسن البنا وابن تيمية والمودودي، شكلت وعي وتوجه أمثال شكري مصطفى وهو في السجن وخارجه، حيث في النهاية أصيب بحالة من تضخم الذات عندما اعتبر نفسه هو «خليفة المسلمين» حتى وقت اقتياده لحبل المشنقة كان يقول لهم: «إن الله سينقذني». هذا السقوط في حالة الوهم «لأمير الجماعة» بين مريدين قليلي العلم في رحلة البحث عن حقيقة التدين. شكلت مصر على الدوام بؤرة لتنظيم الإخوان العالمي الذي انتشر خارجها بكثافة جغرافية خلال ما يقرب من القرن (1928-2020) تموجت ظروفه بين المد والجذر، والسرية التامة والعلنية في زمن الرياح الديمقراطية وصناديق الانتخاب التي أعقبت ظاهرتها السياسية بتوسع بعد سقوط الاتحاد السوفيتي في ديسمبر 1991. وسينشط الجدل الواسع في أجنحة ومراكز تنظيم الإخوان في كل مكان حول رؤيتها الشرعية للتعامل مع مفهوم غربي كالديمقراطية. دون شك انتصرت داخل تنظيم الإخوان خيارات الظروف الجديدة والقبول بصناديق الاقتراع التي تفتح طريقًا ممكنًا وجديدًا للوصول إلى السلطة، فكان المشهد في أوائل التسعينات حتى لحظة ما سمي بـ «الربيع العربي». بدت الوجوه الممثلة للإخوان في الانتخابات النيابية تشكل ظاهرة واضحة من حيث الثقل والتأثير في تلك الانتخابات كما هو مجلس النواب في مصر والأردن والكويت والسودان والبحرين وتونس والجزائر والمغرب وغزة، غير أن التيار الإسلامي في الجزائر أخفق في الوصول لمقاعد السلطة بتضيق الخناق عليه فيما جماعات الترابي والبشير باتوا يشكلون ثقلاً مهمًا في إدارة البلاد رغم الخلافات بين تلك التيارات داخل الجماعات الإسلامية في مواجهة الإخوان والتي لم تصطدم بالسلاح في تلك الفترات الذهبية رغم الاختلافات الشاسعة والمتنوعة في ميدان الفتاوى والتشريعات وفقه الجهاد وشؤون السياسة المتغيرة في قضايا ما أنزل الله بها من سلطان. وجدنا في مرحلة هيمنة تنظيم القاعدة بقيادة بن لادن والظواهري تسود الشارع السياسي العربي والإسلامي أعمال عنف إرهابية وجدت تعاطفًا كبيرًا وتحولت القاعدة إلى واجهة عالمية للإسلام السياسي. وفي الوقت نفسه بالتوازي كان تنظيم الإخوان يتحرك بهدوء وفاعلية في مناطق عديدة ويصعد من خلال أجواء البرلمانات ويحظى بتوافق مع الأنظمة والسلطات وتنشط خلاياه في قلب المجتمع المدني بحيوية، ويمنح أو ينتزع مقاعد وزارية ومناصب رفيعة، وتتم السيطرة على الجامعات والمنتديات وتغرق ثقافة «الكاسيت» المجتمع ومعارض الكتب الإسلامية والأسواق الخيرية الإسلامية، والتركيز على الزي الإسلامي في المجتمع، وتبرز توجهات فصل الجنسين في قاعات الجامعات، وتفرض بالقوة أجندات إسلامية كثيرة. وبين مرونة الإخوان الإسلامية وبراغماتيتهم في حقل الدعاية والتثقيف قياسًا بتشدد وتطرف الجماعات الإسلامية الجهادية في الفترة ما بين 71-91، كنا نشهد التيار الإسلامي الجارف في العالم العربي والدول الإسلامية وبروز منظمات لا حصر لها في كل مكان واتساع نطاق العمل العنيف الإرهابي، موجهه جزء منه للأجنبي الاستعماري الغربي ومصالحه، وجزء متمركز في مواجهة الأنظمة المحلية «الكافرة!» والمتحالفة مع الأجنبي الذي أباحت له بلاد المسلمين. لم يمر أي يوم في الإعلام الرسمي أو المدني والشعبي إلا وهناك خبر عن تفجيرات وقتل واحتجاجات يقف خلفها الإسلام السياسي، الذي بدا مَعلمًا من معالم العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين (1971-2001). عقود كان بن لادن مركزها السياسي وثقلها في الأحداث العالمية وأدواتها الجماعات الإسلامية الجهادية العنيفة، فيما كانت أفغانستان البؤرة السياسية لحلم تلك الجماعات بالعودة لزمن الرسول وإحياء الإمارة الإسلامية. تلك «اليوتوبيات» الإسلامية لم تنجز طريقها وأحلامها مع لحظة الانعطاف التاريخي العالمي مع تفجير حادث البرجين في نيويورك (11/9/2001) حيث سيدخل الوضع الدولي مرحلة انعطاف عالمي جديد وإرهاب دولي من نمط مختلف، ومطاردات وملاحقات في كل مكان، وتعاون الاستخبارات العالمية وبلدانها في تعقب شبكات وخلايا نائمة زرعت من وقت طويل.
مشاركة :