عدت إلي كاشكايش ضاحية العاصمة البرتغالية و مصيفها علي ساحل الأطلنطي بعد 32 عاما من انتهاء أول عمل لي كدبلوماسي في الخارج. يقولون ان أول "بوَّست " مثل أول حب لا ينسي. و ها أنا ذَا أعود. لكن ناموس الكون التغير.تلك الضاحية الهادئة تضاعف مساحتها عدة مرات، فلم أعد أتبين طريقي إلا بمعدات الإرشاد الإلكترونية. الأسعار التي كانت زهيدة أصبحت عالمية؛ فالمال الذي كنت أنفقه في أفخر الأماكن بلا حساب أصبح يخضع لتخطيط في بلد ارتفعت معيشة مواطنه سبع مرات في تلك الفترة.كنت شابا أهزأ بالتساؤل حول الصحة، فلم يكن المرض أو الموت في الحسبان لرياضي قوي الجسد يمارس سباقات الماراثون و يتفوق في الإسكواش و التجديف، و جعل الجري عادة يوميا، و أفرط في الغذاء و السهر و الحميات القاسية كأسلوب حياة، لكني الأن أجني ثمار التفريط في آلام الظهر و تلك الأمراض الصغيرة التي تتوالي فتقعدني عن ممارسة الرياضة و تلجئني الي الدهانات و المسكنات بعد مشي ساعتين او أكثر، و أجنيها في حميات اعتاد عليها جسدي فلم يعد يستجيب حتي للتغذية الصحية أو المتقشفة كمية و نوعا. فالصحة سباق خاسر مع الزمن، و دورة الحياة الي انتهاء يوما ما حتي لو لم أصب بمرض عضال.أذهب الي اماكن الذكريات الجميلة، فأجد إنها مجرد ذكريات ، أنتشي بها لسويعات لكني أعود الي واقع تغير الحال سنا و صحة و صحبة؛ فأين ذلك الشاب المتعطش للحياة المفعم بالنشاط الذي لا يعود لمنزله الا لنوم الليل أو قلة من ساعاته ! أين أصدقاءه الكثيرون، ربما أعطتهم الحياة احيانا و أخذت منهم فيما لا يعوض، مثلما حدث معه، ربما أصبح هامشيا في حياتهم حتي لو التقاهم، ربما تغيروا مثلما تغير بعدما عركتهم الحياة.كنت شابا ألتذ بمباهج الحياة و متانة الصحة، و أصبحت مسنا أكثر سكينة و حكمة و أعمق فكرا و أنقي روحا و أفضل تواصلا، فأبدلت السعادة المادية بالروحية و النفسية، بعد أن حولت مشقة الرياضة الي مشقة ترويض النفس، و تعب مجاهدة الحياة الي راحة تقبل حكمتها و واقعها.أعود الي البرتغال، فالناس فيها مازالوا علي أصالتهم؛ ذلك الأدب و اللطف و الاحترام و التفهم و الود و الرحمة و التواضع فيما يبدو بالرغم من عصر العولمة و الجموح و التعصب و التوحش في دول أخري، مازالت الفنون و الحرف القديمة حية، و مازال البلد صغيرا جميلا رومانسيا يجئ اليه مواطنو الشمال بحثا عن الحياة الوادعة و الجو الجميل و الشواطيء الدافئة و المعمار الأصيل المتناسق.مازال شعبا فقد امبراطورية واسعة في البرازيل و افريقيا لكنه حافظ علي ثراء ثقافته و تراثه و أسلوب حياته. و ما زالت البرتغال نقطة تلاقي لحضارات و ثقافات و شعوب تصارعت فيما بينها لكنها تألفت في بوتقة البرتغال المسالمة الهانئة، و وجد كل منها شيئا من نفسه ليسكن اليها و شيئا من غيره يتمتع به أو يتقبله.الصحة تذهب، لكن الحكمة تجئ. العمر يتقدم، لكن النفس تصفو. الشباب أصبح لغيرنا، لكننا نمتن لحياة أثرتنا و نتمناها لهم.
مشاركة :