كشفت دراسة أميركية حديثة أجرتها جامعة نورث وسترن أن التعرض لنفس تجارب الآخرين لن يساعدك عندما يتعلق الأمر بالشعور بالتعاطف معهم.. وقال القائمون على الدراسة إن التعرض لنفس مشكلات شخص آخر يمكن أن يجعلك أقل تعاطفاً مع مشكلته.. وذلك لأننا نميل إلى نسيان آلام الصعوبات السابقة.. وبالتالي تكون درجة تعاطفنا أقل مع الأشخاص الذين يتعرضون للمشكلة ذاتها..! وأوضح الباحثون أنه إذا تمكن الإنسان من التغلب على مشكلة بعينها فإنه يميل للاعتقاد بأن الآخرين يجب عليهم أيضاً أن يتمتعوا بالقدرة على التغلب عليها.. وأجرى الباحثون سلسلة من الاختبارات لقياس درجة التعاطف مع الآخرين ركز أحدها على قراءة أكثر من متطوع لقصة رجل يجاهد بشدة للعثور على عمل دون جدوى حتى اضطر في النهاية لبيع المخدرات لكسب المال.. ووجد الباحثون أن المتطوعين الذين تغلبوا على مشكلة البطالة في الماضي كانوا أقل تعاطفاً مع الرجل مقارنة بالمتطوعين الذين لا يشغلون حالياً أي وظيفة.. أو لم يتعرضوا لهذا الموقف من قبل أبداً.. وخلص الباحثون إلى أن الأشخاص الذين تغلبوا على مصاعب معينة في الماضي بدوا أقل تعاطفاً مع الذي يواجه المصاعب نفسها.. مقارنة بالأشخاص الذين لم يواجهوا المشكلة بعينها في الماضي..! هل هذه الدراسة تكسر ذلك الاعتقاد القديم الذي يقول: إن الإنسان لن يتمكن من الحكم على غيره حتى يتعرض لنفس موقفه؟ وهل الشخص الممتلئ مرارة ليس بإمكانه أن يستشعر بإحساس كامل من داهمته المرارة للمرة الأولى؟ ولماذا يعتقد الناس دوماً أن الشخص الذي مرّ بتجربتك هو الأقرب إليك؟ وهو الأكثر فهماً لمشكلتك؟ وربما وهو الأدق.. أكثر تعاطفاً معك..؟ وأنا أقرأ هذه الدراسة تذكرت زميلة لي فقدت زوجها وثلاثة من أبنائها في حادث سيارة.. وكانت شديدة الارتباط بزوجها الطيب رحمه الله.. والحادث خلّف حالة من الحزن الشديد لدى جميع من يعرفها وكان التوقع عندما ذهبنا للعزاء قبل أن يدفن الأموات رحمهم الله أنها في حالة انهيار تام وأنها لن تكون مع من حولها.. ولكن المفاجأة أنها كانت متماسكة وقوية وصبورة ومؤمنة بقضاء الله وقدره.. وإن لم تكن تستوعب الحادث جيداً لأنها تحكي عنهم فرداً فرداً وكأنهم على قيد الحياة.. الغريب أنّ كل من حولها كان في حالة بكاء وانهيار.. لكون المصاب جللاً.. والكل يدعو لها بأن يربط الله على قلبها ويلهمها الصبر والسلوان.. تمر الأيام وألتقيها في عزاء مماثل ولشاب والموقف حزين والجميع يبكي.. أهل الميت والمعزون.. وهي تجلس بثبات.. وهدوء تنظر لمن حولها دون أي تأثر أو تعاطف.. ولكن عندما تتأمل ملامحها ستجد في كل ملمح يختفي حزن الكوكب كله.. لعلها الآن تتذكر أسرتها التي ذهبت وهي تذوب في جبال الصمت.. تنظر لمن حولها بصمت ولا مبالاة.. كما يبدو.. لأنها في الأصل لا تزال وستظل تكتنف حزنها وتتدثر به.. وتعيشه منفرداً وجماعياً.. ولذلك هي تعيشه في مواسم أحزان الآخرين وكوارثهم.. صديقتي لاحظت اهتمامي بها وبالأم المكلومة.. فقالت لي: "من شاف مصيبته هانت عليه مصائب الناس" فقلت لها: لقد عكستِ المثل هو ليس كذلك.. لأنه "من شاف مصايب غيره هانت عليه مصايبه".. قالت لقد فصلته على زميلتنا.. وبدون أسئلة منك.. هي تحضر وتشارك في كل مناسبات العزاء ولكنها كما رأيتها.. لا تتأثر ولم يعد يهزها شيء.. وكما قالت لي ذات مرة: قلبي تحجر.. واكتفيت من الحزن.. وتشرّبته دفعة واحدة.. ولم يعد هناك مجال لشرب كؤوس أخرى.. وإن استلزم الأمر أن أشرب منها.. فلم أعد أستطعم شربها.. صديقة مشاركة قالت: لم تنقطع عن عزاء ومع ذلك لا تمنح الآخر تعاطفها.. توقفت حينها أمام العبارة العابرة.. وكيف أنّ من شرب من المرار كثيراً لم يعد يتعاطف كثيراً مع من بدأ في شربه.. ورفع صوته عالياً بالشكوى.. ربما هذه الحكاية هي من أكدت الدراسة التي طرحتها رغم أنّ آخرين يرون وهو حق مشروع أنّ من يمر بنفس تجربتك هو من يتعاطف معك.. حتى وإن كان قد غادر تلك التجربة ولم يعد داخلها.. وينسى أنّ هذا الشخص سوف يحدثك عن تجربته من موقع حالته اليوم وليس وهو في داخل المشكلة.. التي أنت تعيشها الآن..!! بين من يتعاطف معك لأنه عاش تجربتك وبين من لا يشعر بها تكمن الطبيعة الإنسانية التى يغلفها الغموض أحياناً.. وتلك النثارات التي لا تجمع من الغرابة والأمور التي لا يمكن أن تفهمها.. فالأحاسيس غالباً لا يمكنك أن تُحصي أنفاسها.. أو تحدد بوصلتها إلى أين ستتجه.. وفقاً لصلاحية اللحظة والموقف.. ومع ذلك ستشعر وأنت ترتكن إلى إحدى الزوايا غارقاً في أحلامك.. بأن لا شيء قد يصل بك إلى مرتبة الواقع سوى حزن شخصي سلب منك أعز من تحبهم إلى الأبد.. عندها ستغلق مخازن أسرارك على نفسك.. وستكتفي بتلك الصور التي لم يتبقَّ منها سوى ذكرياتها وماعليك أن تجمعه لتعيد صياغة بعض اللحظات..!
مشاركة :