قبل أزمة الطاقة المتصاعدة التي تعيشها أوروبا حالياً، بفعل الحرب في أوكرانيا، كان الحديث عن استخدام الفحم الحجري لتوليد الطاقة الكهربائية ولتشغيل المصانع من المحرمات. انبعاثات الكربون صارت منذ عقود جزءاً أساسياً، ليس فقط من «الثقافة البيئية»، بل من برامج الأحزاب السياسية المختلفة، حتى تلك التي لا تنظر إلى هذه المسألة من زاوية «الكارثة». تبين بعد نشوب الحرب بين روسيا وأوكرانيا، كيف أن أوروبا المتقدمة لا تمتلك استراتيجية مستدامة للطاقة، باعتمادها بنسبة 40 في المائة على الإمدادات الروسية. كما ظهرت الثغرات التي كانت «مخفية» في الميدان طوال العقود الماضية. ارتفعت أسعار الطاقة بأنواعها على المستهلكين، وغذت موجة تضخمية باتت تهدد الاقتصادات الأوروبية بالوصول إلى الركود المخيف. ولأن بدائل الطاقة الروسية لا تزال محدودة، أو في أفضل الأحوال تتطلب وقتاً لن يكون قصيراً لدخولها الساحة، امتلك رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون «الشجاعة» ليقترح البدء بأعمال التنقيب عن الفحم الحجري في بلاده، بصرف النظر عن أي تبعات بيئية لذلك. والحق، أنه ما كان ليعلن ذلك، لولا أن بريطانيا زادت من حجم وارداتها من الفحم المستخدم في مصانع الحديد والصلب. وكانت المملكة المتحدة وعدد من الدول الأوروبية وكندا، أوقفت توليد الكهرباء من الفحم، وتعهدت بالتخلي عنه تماماً بحلول عام 2030، في إطار التزامات هذه الدول بالحفاظ على المناخ، عبر خفض الانبعاثات الكربونية وضمان عدم ارتفاع درجة حرارة الأرض، إلى مستويات تمثل خطراً. وفي ظل الوضع الراهن على صعيد نقص إمدادات الطاقة وارتفاع أسعارها، بلغت أسعار الفحم العالمية مستويات غير مسبوقة، إلى درجة أنها تضاعفت العام الماضي، مع ازدياد الاعتماد عليه ليس فقط لتشغيل المصانع الضخمة بل لتوليد الكهرباء. دون أن ننسى بالطبع أن الفحم يبقى الأكثر تلويثاً للبيئة مقارنة بالنفط والغاز. زادت أسعار العقود الآجلة للفحم في القارة الأوروبية بنسبة 137%، ما يعزز الاعتقاد بأن الأوروبيين سيواصلون الاعتماد على هذه المادة لوقت لن يكون قصيراً. ومنذ مطلع العام الجاري تراجعت صادرات شركة روسية واحدة فقط (غازبروم) من النفط والغاز للدول الأوروبية بمعدل 29%، ما يفسر الزيادة في الاعتماد على الفحم فيها. من الواضح أن «محرمات» استخدام الفحم الحجري لم تعد كذلك في ظل أجواء الحرب الدائرة في أوروبا. حتى ألمانيا اتخذت إجراءات طارئة لاستخدام هذه المادة، مع وصفها خطوتها هذه بأنها «مريرة لا غنى عنها». فهذه الدولة من أكثر البلدان اعتماداً على الطاقة الروسية. وانضمت النمسا وعدد آخر من دول القارة لنفس المسار، في حين لم نسمع حتى اليوم الاعتراضات العنيفة على اقتراحات بوريس جونسون، بالعودة للتنقيب عن الفحم في قلب المملكة المتحدة. عند الحاجة تنزوي، المرونة حتى في المبادئ، وليس أمام العالم الآن سوى حل مشاكله سياسياً بعيداً عن المواجهات والحروب التي تأكل الأخضر واليابس، بصرف النظر عن مسبباتها.
مشاركة :