حكى عُبيدالله الورّاق لتلاميذه قائلا: عندي لكم أيها النُجباء حديث فيه اعتبار للبيب الأريب وما قلته وأيّم الله إلاّ بعد أن وصل حال التشدد بالبعض من القوم ما لم يصله في أيّ عصر وعهد. كيف يمنعون إماء الله من التكسّب الحلال ويدفعونهن للتسوّل قسراً؟ ليس هذا فحسب بل سمعت أن أحد المخبولين قد أمر أتباعه بالتحرش بالبائعات من النساء في الأسواق كي يتركن أعمالهن ويلزمن بيوتهن يُرافقن الجوع والفاقة..! اعلموا بأني لم أتمنَّ عودة الماضي كما تمنيته اليوم. تمنيت أن يعود الفاروق عُمر بدرّته لكي يؤدب مثل هؤلاء الخوارج المتشددين. واصل عبيدالله حديثه المتأجج وعلائم الدهشة قد بزغت فوق رؤوس أتباعه الذين أشفقوا على صحّة مُعلمهم وتعاطفوا مع حاله الغاضب قال: كانت الحرائر من النساء في كل العصور يبعن ويتبضعن في الأسواق حالهن كحال الرجال ولم نسمع أن أحداً قد تحرّش بهن أو ضايقهن بفعلِ أو فاحش قول، بل كان الاحترام والإجلال يسود السوق ومن فيه. الرجال يفسحون الطريق للنساء والنساء بكل حشمتهن يفاصلن في الأسعار بيعاً وشراءً، يحكم الجميع ويضبط علاقاتهم أعراف العرب الفاضلة وأخلاقياتهم السامية فلا خلاعة من النساء ولا (ترقيم) من الشباب. اعلموا أيها النُجباء أن للمرأة عند العرب مكانة رفيعة فقد كانت تقوم بأدوارها التي ربما تشق على الرجال هذا بجانب قيامها بأعمال الرجال وقت الأزمات كالغزوات والحروب. بل إن القادرة منهن كانت تُرافق حملات الفتوحات لتقدم الدعم (اللوجستي) وطبابة الجرحى والمصابين. لم يقل أحد أن الزمي بيتك وسنعطيكِ من فاضل الخراج بمنّة أو غير منّة. لعلّكم تعرفون أيها النجباء غيرة الفاروق عمر بن الخطاب على النساء ورفعته لمنزلتهن. أليس هو وهو الخليفة العادل من سمح لامرأة بأن تقاطع حديثه وتطلب تقويمه بحد السيف إن ظلم أو أخطأ؟ أتعرفون بأنه أوّل من عيّن في تاريخ المسلمين امرأة لتكون قيّمة على السوق وحاكمة على تنظيمه أي بمثابة وزيرة دولة تفصل بين النزاعات وتُحاكم الخارج عن تنظيمات وتشريعات التجارة؟ إنها الصحابيّة الجليلة الشفاء بنت عبدالله القُرشيّة. أطرق عُبيدالله الورّاق رأسه وطال صمته حتى حسب القوم أنه قد غُشي عليه فتشجّع أقرب تلامذته إليه قائلاً: معلمي يا رعاك الله أليس من الواجب تحذير كاتب العمل وقيّم السوق عن مثل هؤلاء المتشددين وانهم أحد أسباب تفاقم البطالة بين النساء وفقرهن؟ نظر المُعلم إليهِ بإشفاق وقال: "شور من لا يُستشار مثل السراج في النهار".
مشاركة :